الأربعاء، 29 أكتوبر 2014

العلم.. يتقدم أم يتباطأ؟



يبدو أن العلم بدأ يصل لنهاياته, ونرى الآن أنه منذ زمن طويل لم يُخترع أو يُكتشف شيء جديد, مع أن الماديون يقولون أن العلم سيغيِّر المستقبل ويصنع الأعاجيب, لكن في الرياضيات وفي الهندسة والميكانيكا والفيزياء والجغرافيا أين الجديد؟ وفي الطب أيضا, فعلا هذا قرن فقير, وتقنيات الاتصالات مجرد تقنيات وليس علما جديدا, مع أنه الآن العمل أكثر في المختبرات والملايين ترصد للباحثين أكثر من القرون الماضية, وهذا في كل العالم وليس فقط في الغرب, فكل الجامعات ومراكز الأبحاث الوطنية والمعاهد والمختبرات العلمية والشركات تقريبا فيها قسم تطوير وأبحاث, والمختبرات في كل مكان حتى في المدارس, بينما في القرن التاسع عشر والثامن عشر لم يكن الاهتمام بالبحوث كما هو الآن مع أن في تلك القرون الاكتشافات أكثر وأثقل وزنا, مع أنهم يقولون أن العلم سيستمر ويتوسع, والحاصل هو العكس فبدأ العلم ينحسر ويتجه لمجرى أضيق من السابق.

العلم سيقف على الظاهر وحسب, وليس كل الظاهر لأنه مرتبط بالمنفعة وحاجات الإنسان وهي في الأخير محدودة, فالعلم البشري له نهاية, المعرفة قامت بين القانون والمادة, والمادة أشبعوها دراسة. هل ممكن أن يأتي اختراع مثل اختراع الطائرة مثلا؟ والكشوف الجغرافية توقفت منذ زمن, و منظار هبل أرجعوه وفككوه بعد الآمال العظيمة التي عُلقت عليه.

من الملاحظ أن العلم بدأ يتباطأ والتكنولوجيا هي التي تتقدم, لكن سابقا في القرن التاسع عشر العلم متقدم والتكنولوجيا بطيئة, وهذا مقياس مهم, والآن مراكز البحوث والشركات أصبحت تركز على التكنولوجيا. الجديد أصبح صعب جدا ليس كالسابق, ولهذا تلاحظ أمنياتهم عن العلم في المستقبل خيالية, كالسفر عبر الزمن والتنقل بسرعة الضوء ونقل الكهرباء بدون أسلاك وعن الخلود... إلخ, كيف ستنفّذ هذه الأفكار وهي مرتبطة بالميتافيزيقا؟ الزمن ميتافيزيقي كيف سيتحكمون به؟ الروح ميتافيزيقا ولهذا لا يستطيعون أن يفعلوا بها شيئا. يقول الداعية الملحد سام هاريس أن متوسط الأعمار في أمريكا ارتفع بفضل العلم وربما لاحقا سيصل للمئتين مع تقدم العلم, لكن هذا تلاعب, فهل أوقفوا الشيخوخة؟ فهم مجرد عجزة تلقوا عناية صحية, و ليسوا أطالوا فترة الشباب حتى نقول أنهم أطالوا العمر, بل العلم لم يستطع حتى أن يوقف التجاعيد, و هو يتكلم عن أعمار أوروبا في هذه الفترة ويقارنها بالفترة التي كانت هي فترة حروب أصلا, فإذا كثرت الحروب بالتأكيد سيكثر الموت المبكر والفقر والأمراض.

وابتكارات القرن التاسع عشر كلها موجودة في الطبيعة ولم يأتوا بشيء جديد كليا, فالبترول والكهرباء موجودة وبحاجة إلى بحث فيها فقط, معنى هذا أن كل علم له خيط يدل عليه, هل انتهت هذه الخيوط أم لا؟ هذا هو السؤال, هل يوجد ظواهر مادية غريبة لا يعرف عنها العلم شيئا؟ سابقا كان هنالك مجهولات ولها خيوط, مثل ما خلف المحيط الأطلسي, هذا خيط جاهز فاقطع البحر لترى ماذا خلفه, ظاهرة الجاذبية كانت مجهولة ولها خيط: لماذا تسقط الأشياء؟ دائما العلم الذي يدفع له هي المجهولات التي لها ظواهر أو حاجات ومشاكل تحتاج إلى حل. جيمس واط الذي انتبه لقضية البخار وقال لم لا نستخدمها للطاقة, لولا هذا لربما لم يكن إلى الآن هنالك سيارة. وجود حياة أخرى على الكواكب الأخرى هذا كان من أقوى دوافع علم الفلك, لكن علم الفلك الحديث خيب أملهم, فكانوا يتوقعون أن الكواكب التي تدور قريبة من الأرض كلها أماكن مناسبة للحياة وربما يكون فيها حياة, لكنهم وجدوا أن كل ما حوالينا أجرام ميتة, فلماذا يسافرون ويعرضون أنفسهم للخطر من أجل رؤية حجر؟ و بدأها جاليليو الذي كان يظن أن المريخ يكون أحمر في الربيع بسبب ورود شقائق النعمان على تربته, لكن مع أكتشاف أنها مجرد أجرام ميتة بدأ الدافع لعلم الفلك يخبو, إذن الدافع للعلم هو حاجات الإنسان وليس العلم لأجل العلم, لذلك تلاحظ أن أكثر تركيز العلم الآن على مجال الفلك والهندسة الوراثية والاتصالات والحاسب و الطب, لكن أين الرياضيات والهندسة والجغرافيا التي كانت في المقدمة؟ القوة العسكرية والطب من أكثر المجالات التي حظيت بالاهتمام وهذا دليل على أن الدافع هو الحاجة, في كل فترة من التاريخ يكون التركيز على مجال من العلوم أكثر من غيره, وهذا موجود في الحضارات القديمة.

نرى أنهم يبحثون في التاريخ من أجل نظرية داروين, إذن هنالك مجال التاريخ وخصوصا التاريخ الطبيعي والأحافير والفلك والهندسة الوراثية هي التي يهتمون بها الآن مع المجال العسكري الذي لا يتوقف الاهتمام به أبدا, لكن مجالات علمية كثيرة أخرى تضاءل الاهتمام بها والسبب أنه لم يعد هناك خيوط, فلما اكتُشفت الجراثيم مثلا كانت هذه خيوط ومن خلالها عرفوا البكتيريا وأنواعها وصنعوا اللقاحات.

العلم دائما يحتاج إلى خيوط ودوافع مصلحية فهو لا يهبط كالوحي, فوجود ظاهرة محيرة خيط, كأن ترى أجسام ليست كريات دم لا حمراء ولا بيضاء وتكثر عند المريض هذه كانت خيط لاكتشاف الجراثيم, ومن خلاله اكتشف فيلمينغ بالصدفة المضاد الحيوي, فالعلم له خيوط وهي دقيقة وليس الكل ينتبه لها, لكن الكلام إذا لم يكن هنالك خيوط. كان المنظار والميكروسكوب باب للخيوط, فكبّروا وكبّروا حتى وصلوا للكروموسومات وبدونها لن يفكروا بالجينات, فالمناظير دفعت تقدم العلم, لكنهم مازالوا يكبرون في المنظار الالكتروني و لم يأت بجديد في الإنسان.

بفقدان الخيوط يتجه العلم للنظريات, لذلك لا يلاحظ الناس نضوب العلم بسبب كثرة الكلام عن النظريات, في السابق كان أمامهم ظواهر كثيرة محيرة, والآن العلم يبدأ يذهب للدقة و يصعب, أي كأنه أصبح يبتعد عن الطبيعة البشرية, فالعلم أصبح يبتعد عن حاجات الإنسان و قدراته أيضا, فتكون قدرات الإنسان وحواسه لا تستطيع أن تسير وتنطلق مع الجسيمات و ما أقل منها, ومع ضخامة الكون أيضا, فهل يستطيع ان يطور الإنسان أجهزته ليماشي ضخامة الكون؟ لا يستطيع الإنسان بقدراته, فالإنسان ضعيف وقدراته لا تستطيع أن تستمر.

نحن لا نتكلم عن الأمور الميتافيزيقية كالحياة والزمن فهذه لم يجدوا لها خيوط أصلا. الآن عرفوا الخلايا وعرفوا أن كل معلومات الجسم موجودة في الخلية, أي أن الكل موجود في الجزء, وكلها تتعاون مع بعضها, لكن ما الذي جمعها وجعلها تتعاون مع بعضها؟ إذن كل المعرفة المادية لم تنفعهم في شيء في مجال الحياة.

الآن أصبح العلم عسر ودقيق جدا, أي مع مرور الوقت تزداد صعوبة العلم وتقل الفائدة منه, فالخيوط التي كانت موجودة كأنها كانت تقول: تعالوا و اكتشفوني, فهي لم تكن عشوائية, فالبترول كان ينضح على سطح الأرض ويدعو الباحثين لمعرفته. كانت هذه الخيوط موجودة منذ القدم وبالكاد عرفها البشر فكيف سيذهبون إلى عوالم بلا خيوط كالروح و الحياة؟ جسم الإنسان علاقتهم به من خلال الخلية لكن علاقات الخلايا مع بعضها لا يعرفونها, و كأنهم سيلاحقون أي شيء مادي وحسب, حسنا لاحق المادي ماذا ستجد في الأخير؟ سيضيعك في متاهة! فالصغر لا نهاية له, تستمر تلاحق الصغر وتتعب معه, والأشياء التي تهم الإنسان تعدّوها, ككيف تتكاثر الخلايا وعلى ماذا تتغذى, فكانوا أمام خلية تنقسم وتتكاثر, كيف؟ أمام خلية تتنفس وتتغذى, كيف؟

أنا أقول أن الخيوط مطروحة على السطح, فالقمر موجود أمامنا ويقول تعالوا اكتشفوني, والمرض خيط مطروح أمامنا لمعرفته, أما الآن فنحن بحاجة إلى اكتشاف الخيوط أولا, وهذا شيء متعب ومكلف, و بالتالي العلم ذاهب للطريق العسر وليس اليسير, فهو ذاهب إلى التقفيل بدليل سبق التكنولوجيا للعلم, فالجديد الآن تقنية وليس كشف علمي, على عكس القرن الثامن والتاسع عشر. الآن بدأت التكنولوجيا تلاحق العلم بالدقة مثل تقنية النانو, المفترض أن العلم الآن يضحك على علم القرن التاسع عشر والثامن والسابع عشر, لكننا ننظر إليهم بعظمة ولا نجد لهم مقابل في زماننا من العلماء, هذا دليل أن العلم بدأ ينضب, فالمفترض أن يخرج بدل نيوتن سبعين نيوتن لأن الرعاية والاهتمام بالعلم أكبر من زمنه, وبدل أديسون سبعمئة يرون اختراعاته بدائية, هذا لو كان العلم يقفز كما يقولون, ليس أن يطفوا الكهرباء في نيويورك في ذكرى وفاته, فالعلماء الذين يقدرهم الناس هم علماء الماضي و ليس الحاضر, والآن لا نرى أسماء علماء مشهورين عدا ما تشهرهم الأيديولوجيات كهوكينج وداوكنز وأمثالهم, فهذه علامة: أنه إذا قيل علماء التفتَّ للوراء وليس للحاضر. أين وسيلة النقل التي اكتشفت غير ما اكتشف القرن التاسع عشر؟ سيارات طائرات وقطارات ودراجات, هي نفسها التي نستخدمها الآن!

عمليات الجمع والتصغير والتلخيص لما هو موجود في السابق كان علامة على نهاية الحضارة العباسية, ففي نهاية الخلافة العباسية توقف الإبداع والجديد وأصبح المطروح كله عن إنتاج الماضي, وهذا ما دخلت فيه الحضارة الغربية الآن, فتجد الاختراعات والابتكارات الآن كلها تدور حول الجمع والتصغير, فأصبح الهاتف الجوال يجمع بين الكاميرا والهاتف والتلفاز والراديو... . ويبدو أن الحضارة القادمة هي الحضارة المعنوية, فالبشرية عانت من المادية التي جعلت الإنسان يسجد للجهاز المادي ويحتقر الإنسان بداخله, فالحياة الغربية بدأت تصبح مملة.

البشرية استثقلت واستصعبت نموذج الحياة الغربي, فأغراضه ومطالبه كثيرة ولا يقدم سعادة دائمة, البشرية ستبحث عن السعادة في المعنوي, الذي يقدم سعادة كبيرة بتكاليف مادية بسيطة. حتى نعيش حياة غربية يجب أن يتضخم حجم الأرض أضعاف المرات, فهي عيشة مكلفة, الشعب الأمريكي يستهلك خمس الطاقة بالعالم وهم لا يشكلون خمس العالم, فالنموذج الغربي نموذج مفسد للبيئة, و سترفض البشرية هذا النموذج لأنه نموذج مدمر لكل شيء. تصور فقط طاولة البلياردو كم تكاليفها وصعوبة نقلها وأغراضها من أجل فقط أن تلعب بها مرة في الشهر! فنموذج الحياة السعيدة الغربي لا يمكن أن تقبله البشرية, هذا غير أنه ضار بعقلية الإنسان ومسبب للكثير من الأمراض ويسبب البله, فالحياة الغربية المادية أساسها رفاهية وتسلية حتى العمل هو من أجل التسلية, فتغيير فكرة أن الحياة متعة هو الذي يؤدي بالإنسان أن يكون متعقل وغير مسرف ويحافظ على البيئة, لكن أن تعيش لأجل أن تستمتع هذا ما سيجعلك تدمر البيئة ويضطرك للسرقة واستغلال الضعيف... .

كل إنسان يحتاج للأمن والاطمئنان قبل المتعة, وهذا مالا تقدمه الحضارة المادية الغربية المليئة بأدوات السعادة ولكن لا سعادة. حتى مشكلة الموارد والبيئة والفقر حلها هو بتغيير النموذج الغربي وباندحار الحضارة الغربية وأن تأتي حضارة أفضل منها, فهي في طريقها للهاوية لا ماديا ولا معنويا, و كتاب "انتحار الغرب" يشهد بمثل هذا.

أحد الأدلة على انكماش الحضارة الغربية هو بزوغ مراكز ثقافية وصناعية في غير الغرب كما في الصين واليابان والهند وغيرها, فصارت الآن أكثر نشاطا من الغرب ومعدل النمو الاقتصادي عندهم أكبر, و أيضا تقوقع النظرية المادية على نفسها وانحسارها وعدم ثبوت نظرية التطور رغم بحوث عشرات السنين, وتنامي العداء للسامية وتنامي التصديق بنظرية المؤامرة وزيادة التذمر الذي لم يكن موجودا عند الغربيين و تنامي العداء للرأسمالية وضعف السيطرة الغربية السياسية مقابل روسيا والصين والدول الآسيوية وغير ذلك من علامات انكماش الحضارة الغربية, فالشرق بدأ يسحب البساط من تحت أقدام الغرب تدريجيا, فأكثر الصناعات الآن شرقية, والعولمة هي ستدمر الغرب لأنها تنقل الصنعة إلى الشرق مع أن فيها فائدة للرأسمالي, إذن الرأسمالية هي ضد الغرب وليست معه, لأن الرأسمالية من خلال العولمة مضطرة أن تنقل مصانع للخارج حيث الأيدي العاملة الأرخص. لو ترجع قبل 10 سنوات مثلا ستجد أن الأجهزة من شركات غربية ولكن الآن تجد أكثرها شرقية, ففي السابق مثلا أكثر السيارات كانت أمريكية وأوروبية, والآن السيارات الشرقية وبالذات اليابانية والكورية غطت العالم, الآن بدأ الغرب يصير مستورد للمنتجات والتكنولوجيا.

  

هناك تعليق واحد :

  1. موضوع رائع للغاية،
    عندما كنت أكتب مواضيع عن جديد العلم في مدونتي:
    أجمل صورة أدهش بالتطور المستمر للعلم بشكل هائل في كل المجالات والجميل أنه لم يعد حكرا على الدول الغربية فقط بل سارعت كل دول العالم إلى الدخول إلى السباق وتطوير قدرات البحث العلمي لديها. بما فيها الدول العربية والأسيوية ولعل فوز ثلاث علماء يابانيين بجائزة نوبل للفيزياء لهو خير برهان.

    ردحذف