التفكير الصناعي (غير الطبيعي) يشوش على العقل ويجعله غير دقيق إلا في
المادة، والسبب أن المادة هي التي تفرض دقتها على دارسيها، فمن خلال التجارب يصلون
إلى النتيجة الدقيقة. المعارف المادية التي وصلوا إليها هي من دقة قوانين المادة
أكثر من كونها من دقة عقول مكتشفيها ومطبقيها, البراعة والإبداع هما في أن تكون
دقيقاً في مجال لا يفرض عليك الدقة ولا ينبهك إلى أخطائك ؛ لذا فما يتطلب الذكاء
الأشد هو المجال المعنوي وليس المجال المادي .
الدقة هي أن تعرف أموراً عائمة لم يُجَبْ عليها , وتأتي بها مفصلة وموضحة.
وكثير من الناس يتكلمون بالمعنويات كلاماً كثيراً ولكنهم ليسوا دقيقين فيها, ولهذا
يظنون أن المجالات الأدبية والمعنوية والنفسية أسهل من المجالات العلمية المادية,
بحجة أن المجالات الأدبية غير محكومة بالدقة ، ولعمرك هي الأصعب! ففي المجالات
العلمية المادية كل ما عليك أن يكون معك أدوات وتستفيد من تجارب السابقين والذي لا
تعرفه تجربه ثم تحلل ما حدث.. والعقل له دور هنا بلا شك ولكن ليس كل الدور له بل
الدور الأكبر لقوانين المادة التي تُنبه العقل كلما أخطأ، وهذا ما يفسر كثرة إجراء
التجارب والإنفاق الضخم عليها, فالمادة تُعلِّم من يدرسها.
لكن في المجال المعنوي لا يوجد ذلك المعلم الحساس ، فلا يوجد حدود
يصطدم بها حين لا يكون دقيقاً, بينما طائرة تحت الصنع مثلاً حين يختل جناحها تعرف
أن هناك مشكلة أو خللاً ستؤدي إلى تحطمها إن طارت فيُبحث عنه حتى يعدل من خلال
التجارب ، والتجارب عبارة عن عرض البدائل على المعلم الطبيعي وهو القوانين المادية
, ولهذا يرصدون المليارات لأجل البحوث العلمية لكثرة الفاقد وكثرة الفشل في
التجارب , فيجربون ويعيدون التجربة ويتخصص أشخاص كل منهم يرصد جزءاً من التجربة
ويظلون هكذا لسنوات أحيانا. لذا لا يختلف الناس طويلا وكثيراً بالماديات, لأن
المعلم موجود, من المعلومات مثلاً: أن نسبة البنزين مع الهواء كذا لكذا ضروري
للاحتراق حتى يعمل المحرك, السؤال: هل أتوا بهذه النسبة من عقولهم ؟ الجواب: كلا،
بل جربوا ربما مئات المرات حتى يصلوا إلى هذه النسبة الدقيقة!
لكن قضية الخير والشر منذ أيام اليونان وهي معلقة ولا يعرفون هل
الإنسان خَيّر أم شرير, فهي قضية لم تحسم ما دامت الآراء مختلفة حولها وبنفس القوة
, وكان المفترض أن يبدؤوا بها ما دامت لم تحسم, ولو استطاعوا أن يحلوها لفعلوا.
هناك أشياء تفعلها حتى تكون مهندس بترول أو طبيباً ، لكن لا يوجد أشياء
تفعلها لتكون شاعراً ممتعاً ! فأيهما الأصعب حقيقة؟! لماذا عظموا المجالات العلمية
أكثر من الأدبية؟ لأنهم يعتقدون أنها الأهم, لماذا؟ لأنها تتعلق بمصالحهم المادية
التي يعتقدون أنها هي الأهم, الخبزة عندهم أهم من القصيدة، والتفاحة أهم من
الوردة, ويتحملون آلامهم الفكرية والنفسية ولا يتحملون آلامهم الجسدية مع أن كلها
آلام, بل لا يعتبرونها آلاماً, ويتناولون حبوباً نفسية لها, وكل هذا حتى لا
يعترفون بمصدر لها وهو الأفكار. وهذا لا يعني التقليل من أهمية العلم المادي ، لكن
العلم المعنوي أهم منه؛ لأن المادي تابع للمعنوي ، والجسم تابع للروح وليس العكس .
الحقيقة أن المعنوي أهم من المادي (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) , اعمل
إحصائية للناس وخيّرهم بأن تجعلهم سعداء ومطمئنين من الداخل بحد أدنى من الدخل أو
أثرياء ومتعبين من الداخل وتطاردهم الكآبة ؟ سنلاحظ أن من سيختار
الثانية هم الأقل وهم المرضى بالمادية .
العلم المعنوي هو الأهم والدليل إقبال الناس على الكتب النفسية وطرق الحياة
أكثر من الكتب العلمية, مع أن العلم المادي يرصد له المبالغ الأكبر لأنه ينظر له
من ناحية نفعية وليس من ناحية حب وعاطفة ، فالناس لا تتعامل بالحب مع معطيات العلم
والتقنية رغم الاستفادة الكبيرة منها ، بل تأخذ قيمتها حسب خدمتها للجانب المعنوي،
مما يعني أن الناس لا يعيشون لأجل المادة ، لكنهم يحتاجون إليها كي يعيشوا ، فهي
سبب وليست غاية ، إذاً ما هي الغاية من الوجود؟ وهذا هو السؤال، فنحن
لا نعيش لكي نأكل ، لكن نأكل لكي نعيش ، ولا يمكن أن تكون الوسيلة غاية .
كل الجامعات فيها مراكز بحوث ولكن أكثرها مادية, حتى العلوم النفسية
يجبروننا أن تكون مادية, لهذا ليس عندهم بحوث ولا يبرزون مشاكل اسمها
"الأفكار" , الأفكار لما تنعكس على النفس وتتحول إلى آلام يعالجون النفس
من الآلام بالحبوب أو التسلية واللهو, مع أن الإنسان عاش دون تعقيدات الأجهزة, ولم
نر الأجيال القديمة تتغنى حالمةً بمصباح كهربائي أو حديدة تسير أو تطير, بل تتغنى
بالسعادة , مثلما الناس الآن! إذن ترك الماديون الأهم وذهبوا إلى الأقل أهمية.
الجانب المعنوي ( الروحي والنفسي والأدبي والفني والأخلاقي والفلسفي
) هو الذي احتارت به البشرية وليست العلوم المادية ، كما قال المعري:
والذي حارت الخليقة فيه *** حيوان مستحدث من جماد
يقصد الإنسان ، طبعاً بجانبه المعنوي وليس الجسدي .
الآن تفرع العلم إلى تخصصات دقيقة ولكن يظل الإنسان "ذلك
المجهول" هو الأهم ، فكل هذه التخصصات لخدمته كجسد أو من خلال الجسد .
ودقة المجالات
العلمية هي التي جعلتها تبدو صعبة، ودقتها أتت من الحقيقة ، إذن هذه المجالات
المعنوية تنتظر الدقة, وما دامت لم تحصل على الدقة فلم تتحول بعد إلى علم، وإن كان
البعض يسميه علماً كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال على سبيل التجوز ، بينما
هي حقيقة عبارة عن آراء واجتهادات
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق