السبت، 26 يناير 2013

العقل والشعور




العقل المجرد كثير المطبات, فمن يَركَب العقل لوحده كمن يركَب حصاناً لم يروّض, فلابد أن يقع. يجب دائماً أن يسبق الشعور العقل لأنه هو صاحب النظرة الشمولية, وهو الأب الشرعي للعقل. من يكن العقل هو وسيلته الوحيدة في التفكير سوف يتجه به إلى الجزئية (قانون), وهذا يوضح لماذا كل الفلسفات الغربية تقوم على فكرة واحدة, ففرويد بفكرة واحدة وكذلك داروين وماركس ونيتشه وسارتر..إلخ, فكل الحياة يرونها جنس أو اقتصاد أو عدمية.., فالعقلية الغربية عقلية مصابة بداء تعميم الجزئية الواحدة على كل الحياة؛ بسبب المادية التي أفضت إلى العقلانية المجردة. 

العقلانية عند الأوروبيين هي التي قادتهم إلى التفكير المادي, فالمادة هي المجال الأرحب العقل, فيدرسون نفس الإنسان مثلاً ومشاكله النفسية وفي الأخير يخرجون بعقاقير مادية للنفس غير المادية أصلاً! لهذا فالماديون بالأخير أنكروا وجود الروح والنفس.



لاحظ أنه حتى الشخص الذي تراه "أبلهاً" تجد عنده منطقاً وليس خالياَ منه, ودائماً يسقط أصحاب العقل المجرد بسبب أن العقل جزئي ولا يدرس كل النواحي. العقل لا يستطيع أن يدرس الشيء من جميع النواحي لأنه ميال للجزئية, فكلمة عقل معناها جزئية, فإذا رأيت من يدرس الموضوع دراسة عقل فقط ستكون نتيجته إذن جزئية, والنتيجة الجزئية لا يمكن تعميمها. الإنسان الذي ينطلق من الشعور تجده من الصعب عليه أن يعطي حكماً بسرعة في أمور مركبة متعددة الارتباطات, بسبب شمولية الشعور ونقص التغطية العقلية المعرفية لكل هذه الشمولية.


العقل هو عبارة عن أشياء حُفِظت بسبب تكراراها وكثرة الحاجة إليها. العقل لا يعرف شيئاً بل يُقدَّم له معروفات, وهي التي نسميها بديهيات, والبديهيات أتت من الشعور, وهي أشياء عرفناها من تكرار التجربة, مثل بدهية أن الماء يجعلك تغرق, وأن 1+1=2.


العقل يظنه الماديون مركز الفهم بينما هو مركز اللافهم, فمقولة "معرفة من خلال العقل" مقولة خاطئة أصلاً, فكل ما في العقل آتٍ من الشعور, فمن الخطأ أن يسبق التلميذ المعلم. والشعور يعرف بالهبة من الله, وبالتالي هو يعرف ولا يعرف, فأنت تعرف أنك موجود لكن لا تستطيع أن تثبت كيف أنت موجود, وتعرف الفرق بين الكبير والصغير لكن لا تعرف كيف عرفت وما معنى هذه المعرفة.
كلما تبتعد عن الشعور وتتجه للعقل وحده كلما تبتعد عن الاختيار الخيّر, وبالتالي تتجه للاعقل.


العقل عبارة عن أقيسة وحسابات لم تحط بكل شيء, فدائماً ضع في بالك أن العقل هو إناء لم يمتلئ بعد, انظر للعلم مثلاً, فآلاف النظريات تفشل بعد التجربة مع أنه كان لها منطق قبل التجربة! فالمنطق صحيح لكنه قليل, {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} لأن المنطق علم متكرر جاء بالتجربة وليس بالابتكار.


الشعور هو الذي يغذي الرصيد المنطقي, ومن ينطلق من الشعور هو المؤهل لأن يغذي الرصيد المنطقي والعلمي والمعرفي للبشرية, وانطلاقنا من الشعور هو الذي علمنا ما هو العقل, فلاحظ أن العقلانيين الماديين لا يعرفون عن العقل, إذن العقلاني حسب الموجود هو الأبعد عن العقلانية فلابد أن تعرف ما هي الأداة التي تستخدمها.

لماذا صار مكان العقل أمام الشعور؟ 
كلما تحتك بالعالم المادي سيكون العقل أول ما يتعامل مع المادة, فالحواس تسقط المعلومات للعقل, فالعقل هو الخط الأول لكل ما تسمع وما ترى وما تدخله الحواس, والدليل أنه كلما تأتيك مشكلة تلجأ للعقل، وإذا عجز اتجهت للشعور. المادية تدفع بك إلى عالم المادة الذي بدوره يدفعك للعقل المادي ومن هنا يتحول الشخص لعقلاني مادي أو بتعبير آخر "عقلاني مجرد", ومن هنا يحس الشخص بالخواء الداخلي لأن القيمة عنده للمادة, ويبقى لا يدري ما جدوى وجوده. 

هناك عقلانية طبيعية وعقلانية غير طبيعية (مجردة), وكونك مادي واخترت المصلحة المادية على عالم الشعور والفضيلة سيحولك هذا إلى العقلانية المجردة, فأي بخيل في العالم هو مادي التفكير لأنه بَخِل أولا قبل أن يكون مادياً في نظرته العامة, أي اختار المادية لحياته وقادته إلى مادية الحياة.

التفكير السليم هو إحساس يأخذ الأقيسة العقلية, أي تحس ثم تفكر وتفكر ثم تحس, بديالكتيك بين العقل والشعور, بين الأقيسة الجامدة والشعور الحي, مثلما أن الحياة روح ومادة جامدة. ولكن المنطلق هو أنك أحسست وليس فكرت, مثلما أن الروح هي منطلق الحياة, فإذا ذهبت الحياة بقيت المادة الجامدة تربة وعظاماً بالية.


تسقط قيمة العقلانية المجردة إذا عرفت أن العقل أساسه هو الشعور, إذن يجب أن يكون الشعور هو الأساس دائماً, لأنه هو مغذي العقل وموجهه ومنتجه من الأساس. 
لماذا العقلاني المجرد لا يبدع؟ لأن أداته واحدة وضيقة فكلما فكر أخرج نفس النتائج, و لماذا الماديون متشابهون في حلولهم للمشاكل و نظرتهم للحياة؟ لأنهم أيضا ينطلقون من هذه الأداة الضيقة فيخرجون بنفس النتائج أو نتائج متشابهة.

 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق