السبت، 26 يناير 2013

الفهم الشعوري




شعورات البشر كأنها في حالة عوم (أو بحث مستمر عن الثابت), وعندما يأتي الفهم الحقيقي فإن الشعورات تبدأ بالدوران حوله وتعتبره مركزاً لها. الشعور الإنساني يبحث عن ثابت حتى يتعلق فيه ويبني عليه ويفهم من خلاله الأشياء الأخرى، فهو يشبه النباتات المتسلقة التي تبحث عن غصن ثابت تلتف عليه وتنطلق منه إلى الأعلى، والثابت في الطبيعة هو الحقيقة ، أما الصناعي فهو غير ثابت ، مثلاً من يسمع أو يقرأ عن أجواء الحرب سيختلف فهمه للمشهد إذا عاشه في يوم ما وسينطبع فيه ولن ينساه، وكذلك من يسمع عن افتراس الذئب للغنم سيرسخ فهمه عندما يعايش المشهد الحقيقي أمامه وسينطبع فيه أكثر من أن يسمع أو يقرأ عنه ، وهكذا كل حقيقة لا تُنسى عند الشعور وسيبني عليها .

الشعور لا يرتبط بغير الثابت, حتى حقائق العلم إذا أخذناها بالتجربة فستختلف عن قراءتنا لها أو ما سمعنا عنها ، فما يجعلها ترسخ في الشعور هو المعرفة ، فأنت الآن عرفت لبنة أساسية والشعور مسك هذا التمييز وبنى عليه منطقاً إما حقيقياً أو مزوراً, لكن الحقيقة نفسها راسخة عند الشعور ، مثلاً: اكتشاف الكروموسومات في الخلية وأن فيها معلومات وراثية، هذه حقيقة، ولكن كيف وقف عندها المؤمن وكيف وقف الملحد؟؟ سنجد أن كلاً منهم فسرها بطريقته، لكن حقيقتها موجودة . إذا أتى أحد يتكلم عن الحقائق بمنطق حقيقي فالنتيجة فهم شعوري، فليس كل كلام مثل كل كلام .

الشعور يفهم مرة واحدة وليس مرتين (قانون) فلا يمكن أن تقول "فهمت" ثم تذهب وتغير إلى فهم آخر، وإنما يكون تطوير وتأكيد لهذا الفهم ، وصدمات الفهم والكشف التي نتلقاها في حياتنا هي ليست تغيراً للفهم وإنما انكشاف لعدم الفهم، أما بعد الفهم الشعوري يتوقف البحث، ولا يستطيع أحد تفهيمك بعكس الفهم الشعوري الذي وصلت إليه، وهذا دليل أن الفهم واحد ، فمن يفهم أن 1+1=2 لا يستطيع أحد أن يفهمه غير هذا الفهم مهما بذل ، فنقيس على هذا، والنتيجة لهذا الفهم الشعوري عقل كامل .

هناك فهم مزور وفهم ناقص ، هناك أشياء نقول أننا فهمناها لكننا لم نفهمها حقيقة ، وهناك ما نعتبره مفهوماً ولكن فهمه ليس شاملاً لكل المناحي . لما ترى في الطبيعة قطاً يتصارع مع آخر سيرسخ هذا المنظر بداخلك ولا يستطيع أحد أن يقنعك بأن القطط لطيفة مطلقاً! ومثلها إذا فهمك أحد بخطر شيء ثم جربته ولم تحس بخطره فلن تعتمد على تفهيمه الأول لك.

في الشعور إما فهم أو عدم فهم ، والفهم يكون للصواب وليس للخطأ ، فلا يتم الفهم إلا بعد معرفة الصواب ،  من يتعصب لشيء في إثباته مثلاً ثم تحاول إقناعه بالعكس تجد أنه يتعصب ولا يقبل النقاش لأنه لم يفهم بعد ما يدعو إليه! فالفاهم يستطيع أن يفهِّم غيره .

من يفهم شيئاً حقيقياً (حتى لو كان بغير قصد منه) فسينبني فيه شيء ثابت لا يستطيع إزالته وسيقلقه إن تجاهله . من لم يفهم يكون مثل الطفل أمام الفاهم ، وأي فهم حقيقي لن يسمح لك بالرجوع للوراء. إذا جاء الفهم الحقيقي طرد الفهم المزور واللافهم (قانون), ولهذا حارب الكفار الأنبياء لأنهم يقدمون فهماً حقيقياً يخالف أهواءهم، ولذلك استغشوا ثيابهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم لكيلا يفهمون مالا يحبون, وقال الله تعالى عنهم {ظلموا أنفسهم} أي ظلموا شعورهم . الاختيار يحدد وجهة الفهم، وإذا اخترق هذا الاختيار فهم حقيقي فسوف يتعب المختار للصناعي أو للشر من هذا الفهم الحقيقي لأنه يخالف اختياره .

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق