الأحد، 29 يناير 2012

حوار حول المادية (5)



بداية الرد الثاني للعضو ياسين :
الزميل الوراق:

دعني قبل أن ابدأ أن أقول لك :أنك كنت تجزئ كلامي و تخرجه من سياقه المتسلسل ثم تنتقده, و لا أعرف أين الموضوعية و العقلانية في هذا.

الرد :

على العكس ، الموضوعية تقتضي الدقة عند اكتمال الفكرة ، حتى لو كانت جزئية ، وحتى لو كانت من جملة واحدة .. انت ترد على المقطع ، و انا ارد على الجملة ، إذا انا اكثر موضوعية منك .. ليتك تفعل هكذا معي .. لكن الشيطان في التفاصيل .. 


ياسين :

و
الآن دعني أوضح أن علم النفس يهتم بفهم السلوك لدى الانسان الفرد, ما الذي يسببه و ماذا ينتج عنه. و من خلال هذا التعريف يمكن ان تترك لمخيلتك ما هي المجالات التي تحقق فيها انجازات, و كي لا أطيل عليك عملية البحث سأذكر لك مثالين طبيين هما الاكتئاب و الوسواس القهري, هذان مرضان نفسيان تم توصيفهما و دراستهما و اصبح بالامكان علاجهما من خلال العقاقير أو جلسات العلاج الحوارية. و يمكن لك أن تقرأ كتب علم النفس فستعرف الكثير عن هذا العلم و مجالات تطوره و تقدمه. و انصحك بقراءة كتب لعلمين في علم النفس هما (غستاف يونغ) و (ألفرد أدلر).

أما عن أن الانسان مجهول فدعني أقول لك أن الجميع يتفق معك في هذا حتى اشد الماديين تطرفاً, لكن تعريف المجهول أو مدى الجهل بالانسان فهو مختلف بين شخص و آخر, فالذي لا يعرف أي شيء عن بلد ما يكون هذا البلد بالنسبة له مجهول و من لا يعرف سوى القليل أيضاً يكون هذا البلد بالنسبة له مجهول, حتى الذي يعرف الكثير و هناك أمور لا يعرفها ينظر إلى مالا يعرفه و يقول أن هذا البلد مليء بالأسرار. و تأكد أن كثيراً مما تعتبره مجهولاً قد تم نقاشه و دراسته و لم يعد مجهولاً لأهل الاختصاص.

الرد :

مشكلتك هي انك تعتبر ما تم نقاشه أنه قد فـُرِغ منه واصبح معروفا بشكل لا يتطرق اليه الشك .. يا اخي : البلدان مليئة بمرضى الكآبة والوسواس القهري ، و لم اعرف واحدا ممن اعرفهم شخصيا قد شفي من الصعقات الكهربية او المسكنات .. و التي لها اضرار جانبية بدورها تؤدي الى الهزال والرعاش والشحوب ونقص الوزن الحاد .. بمعنى آخر : تزيد الكآبة اكثر .. لأنها تفتر الطاقة ، والسعادة تحتاج إلى طاقة ..

هذا كل ما في الامر : مسكنات ، و في حقيقتها عبارة عن مخدرات مخففة ، تعرفها البشرية منذ اقدم العصور ..  

بمعنى آخر : ليست هذه العلاجات علمية .. فهي لا تفعل مثل ما يفعل المضاد الحيوي .. وتاثيرها ليس عاما على كل الحالات حتى تكون علمية .. اذا لا يوجد "علم نفس" بمعنى كلمة علم .. اما كلام ادلر وفرويد ويونغ وغيرهم فكلها اجتهادات سطحية ايضا من وجهة نظري .. الاجتهادات والنظريات ليست علما مثل الرياضيات .. هل علم النفس مثل الرياضيات ؟ طبعا لا . اذا لماذا يسمى علما ؟ المفترض ان يسمى "دراسات و نظريات نفسية" وليس "علم نفس" .. 


ياسين :
أما عن فرويد, حتى الذين يختلفون معه يدينون له بالفضل كونه من نقل الدراسات النفسية من الفلسفة إلى العلم, و جعله علماً قائماً بحد ذاته. و لا تستطيع أن تقول أن كتاباته و دراساته هي خرافات لأنها ليست كذلك.

الرد :

لا بل اقول ذلك ، وسوف اضع موضوعا عن قريب يناقش اهم افكار فرويد ..

ياسين :

و ربما من المفيد أن تقرأ كتاباته يعني ان تقرأ كتبه بعقل منفتح دون أفكار و احكام مسبقة , ثم أحكم عليه. هذا إذا أردت أن تكون موضوعياً و عقلانياً.

الرد :

أنا قرأته ونقدته وبعقل منفتح ، ولكن النتيجة ربما لا تعجبك .. هذا كل ما في الامر ، فإذا كانت النتيجة لا تعجبك ، فستكون قراءتي غير موضوعية حتما من وجهة نظرك ووجهة نظر من يؤيدونه .. لكن من يستطيع ان يدافع عنه بموضوعية فأنا بإنتظاره .. اما من سيدافع بمثل هذه الطريقة التي لا تعبر الا عن الرغبة والميول ، فهو دفاع يحمل رده في داخله .. لأن العقل لا يرد بالعواطف .. وأنا انقده بالعقل .. واستحق ردا عقلانيا .. اما ان تقول عني انك لم تقرأ فرويد أو انك تنطلق من احكام مسبقة ، فهذا ليس ردا عقليا بل عاطفيا ، كانك تقول : انا احب فرويد ، فلماذا لا تحبه مثلي لأني احبه ؟     



ياسين :
أما عن الطبيعة المادية للانسان فهذا ليس أمنية, بل هو واقع ملموس, جسدك و دماغك و ما يحتويانه من تعقيد هي مواد لها كتلة و حجم, فأين الأماني في هذا. أكثر الأمور التي تعتبر غير مادية هي المشاعر, يوجد مواد كيماوية تسمى العقاقير النفسية (تصنف على أنها مخدرات ممنوعة) هذه المواد الكيميائية يمكن لها أن تجعل من يتناولها يشعر بالخوف أو بالسعادة أو بالحب, و هناك ايضاً مضادات الاكتئاب و هي أدوية تخفف شعور الانسان بالحزن.و هنا ماذا يمكن أن تسمي هذا؟؟؟؟

الرد :

اذا أُسمي مخدراتك هذه مشاعر ! أهذا ما تريد ؟ حسنا ، اذا انت استطعت ان تجسد المشاعر و تكشف لنا عن جرمها المادي ، واذا هو حفنة من المخدرات والعقاقير ! تستطيع ان تضع الكحول من ضمنها ايضا .. وتجعلها في علب وتقول : هذه هي المشاعر البشرية !! هل هذا كلام علمي ؟ نحن نحس بالمشاعر بدون هذه الاشياء ، وتركيبها الكيميائي غير موجود في الجسم .. و كونها مثيرات للدوافع ، لا يعني هذا انها هي الدوافع ذاتها ، استطيع ان اجعل شخصا يخاف بدون عقاقير ، و اجعله يتفاءل بدون كيماويات ، كل هذه نواتج و ليست اسباب ..

انت تتكلم عن المادة و كأنها كل شيء ، الحقيقة انها ليست كل شيء ، بل حتى دراستكم للمادة هي دراسة ميتافيزيقية ، المادة تتحكم بها القوانين ، و القوانين ميتافيزيقية ، ام انك تستطيع ان تحضر لنا القانون في قنينة مختبر ؟ اذا العلم ميتافيزيقي في اساسه ، لانه يعتمد على القوانين ، و لولا المادة ما عرفنا القوانين ، و لولا القوانين ما عرفنا المادة .. كل ظواهر المادة هي عبارة عن ظواهر القوانين ، و القوانين لا ترى ولا تلمس ولا تشم ، ولا يكبرها المجهر ، اي غير مادية ، فماذا بعد هذا ؟ حتى المادة دراستها ميتافيزيقية !! ماذا بقي للماديين ؟ الانسان كل دوافعه غير مادية ، وغير معروفة ولا يمكن معرفتها ، بما فيها الحياة والوعي : ماذا بقي ؟ نحن نسبح في عالم ميتافيزيقي ، والفلسفة المادية اشبه بالسفينة الورقية في اعالي بحار الميتافيزيقا ..

كل ما تحاوله انت هو ان تهوّن من قيمة العالم اللامرئي واللامحسوس ، مثل من يريد ان يخفي الشمس بالغربال ..

نحن في الحقيقة لا نعرف شيئا ابدا .. إلا ما اراد الله لنا ان نعرف ظواهره من خلال القوانين التي لا نعرفها بحد ذاتها .. بحيث نعرف اثارها على المادة ليس الا .. و هذه الخاصية هي التي ميزت الانسان عن الحيوان .. نحن نعرف اعقد المسائل في الرياضيات ، لكن الاساس ما هو ؟ الاساس هو 1+1=2 ، ونحن لا نعرف لماذا صار الشيء مع الشيء شيئين ! لكننا نعرف انه يكون هكذا ! من خلال هذه البديهيات اشتغلت عقولنا ، اي كل علم الانسان هو بناء على جهل عقلي ، لكنه معرفة بالاحساس ..

اذا الله هو الذي علمنا ما لم نعلمه ، والحيوانات تدرك باحساسها ما يتعلق بغرائزها فقط ، لكن احساسها لا يستطيع ان يدرك القوانين ، لهذا هي تشاهد القوانين ولا تستطيع ان تعرفها .. مع انها تملك انواعا من الذكاء لا يستطيع ان يصل اليها الانسان ، اذا ليس ذكاء الانسان هو الذي علمه .. بل اريد له ان يكون مميّزاً للقوانين من خلال الحدس الغير مفسر ، فلما ميز القوانين استطاع ان يبني عقلا بموجب ذلك التمييز .. اذا التمييز يسبق العقل ، والمجنون الفاقد للتمييز أو المتخلف شديد التخلف العقلي لا يمكن أن يعلّم ويبني عقلا .. و كذلك الحيوان ..

كيف نقول ان الانسان تعلم بذكائه ، في حين انه لا يعرف اي شيء عن البديهيات التي بنى عليها كل عقله ؟ اذا الانسان ليس مخلوقا ذكيا ولا ذاتي التعليم ، بل نسميه مخلوقا مميزا ، و هو التكريم الذي خُص به الانسان عن بقية الحيوانات التي تعيش معه في نفس البيئة و تشاهد و تتعامل مع نفس المادة والقوانين .. ولا يشاركه في هذه الميزة اي نوع من انواع المخلوقات (ولقد كرمنا بي آدم) ..   
      
ياسين : سأعيد صياغة السؤال بشكل مختلف: إذا كانت المشاعر غير مادية كيف استطاعت مواد كيماوية في أن تولدها أو ان تتحكم بها؟؟؟؟؟

الرد :

هي لا تولدها ، هي تقدم اثارة لها .. ومسألة التحكم بها ، فليست فقط العقاقير والمخدرات هي التي تتحكم فقط . الانسان مخلوق حساس ، و تثير مشاعره الامور المادية والامور المعنوية ايضا ، لا تنسى هذا ، فالحر والبرد والجوع والعطش والالم ، هذه كلها تؤثر في مشاعر الانسان .. و كذلك الاخلاق والمواقف العظيمة والمواقف الخسيسة والمشاهدات والافلام ، كلها تؤثر في كيمياء الدماغ ، وليست فقط العقاقير .. فللإنسان روح حساسة ..

و لقد اثبتت الدراسات ان التاثير المعنوي اقوى على الانسان من التاثيرات المادية ، و تغيير الافكار يصنع العجائب ، والافكار ليست ادوية تحتسى بالماء .. كم من انسان تدمرت حياته وصحته ايضا و مات مبكرا بسبب الهموم وتكرر الاهانة و التحطيم .. وكم من انسان انتشله الايمان ومعرفة الخير و مشاعر المحبة حتى من امراض جسمية ، فالاطباء يتكلمون كثيرا عن مثل هذه الحالات ، ويرجعون اكثر الامراض الداخلية لاسباب نفسية ، كامراض الجهاز الهضمي وغيرها .. مما يعني ان الانسان ليس مخلوقا ماديا بحتا كما تتصورون ، و قديما قال بوذا : حياتنا من صنع افكارنا ، وليست من صنع عقاقيرنا و مخدراتنا ، مع العلم ان تأثير مثل هذه العقاقير والمخدرات هو تاثير غير طبيعي ، اي تاثير مرضي و صناعي ، و هو يشبه تاثير الحبوب المنبهة والمنشطات والمخدرات .. انها تدريجيا تدمر الانسان وتقضي على صحته .. إن لم تؤدي به الى الجنون ..

انتم ترون ان المخ المادي هو منتج لكل شيء ، بما فيها المشاعر والافكار ، وانا ارى العكس تماما .. ان ذلك الدماغ ليس الا سنترالا موصلا لأوامر عليا غير مادية ، اي ان الدماغ هو نقطة الالتقاء بين المادي والغير مادي .

خذ مثلا مسكنات الالم ، ماذا تفعل ؟ انها تقطع توصيل الاشارة بين العضو المصاب و المخ ، لكنها لم تقطع الامر نفسه ، المخ يشبه جهاز الراديو ، اذا تعطل الجهاز ، فلا يعني هذا ان الموجات الاذاعية قد تعطلت وذهبت عن الاثير .. هذا الدماغ المادة الهلامية ، تقولون انها تنتج الافكار والمعاني والقيم ، وهذه الاشياء غير مادية ، فهل يوجد جهاز مادي ينتج غير مادي ؟ ابحث في كل الاجهزة : الكمبيوتر ، الهاتف ، البرق ، الاشعة .. كلها مادة و تنتج مادة ! اذا كيف قبلت عقولكم ان يكون شيء مادي ينتج امورا غير مادة ، كسابقة وحيدة في الطبيعة ؟ العقل يحتاج إلى أدلة مماثلة .. وإذا كان الناتج مادي ، فعليكم ان تثبتوا ماديته ، وبالطبع لم تستطيعوا اثبات مادية المشاعر ..

اذا الفلسفة المادية عرجاء ، ومضروبة في اهم نقاطها ، لانها لم تثبت ما تدعيه .. وبانتظار الاثبات يجب ان تسحب النظرية كلها ، فإذا اثبتت مختبريا ، فلها الحق ان تخرج الى النور مرة اخرى ، وحينها سوف تقنع الجميع بدون لف ولا دوران .. لان الكل يقنعه العلم و ليست الامنيات العلمية ..

وبعد هذا كله ، يتحول ذلك الدماغ الى حفنة من التراب ، تشبه اي حفنة اخرى ، اين هي الاحاسيس والافكار التي كانت في هذا الدماغ ؟ كلما تحلل المخ وصلنا الى التراب ، فكيف تراب يصنع مثل هذه العجائب ، و تراب اخر لا يصنع شيئا ابدا ؟ لا تستطيع عقولنا ان تقبل مثل هذا الكلام و ان تبتلعه كقرص الاسبرين .. و اذا كانت عقولكم قادرة و بسهولة ، فهذه خاصية غير متوفرة لدي ..            
ياسين :

و أظن أن هذا الذي ذكرته قبل قليل ليس الصاقاً بالعلم. بل هو علم.

عن الأخلاق: المصلحة ليست هي مصلحتي أنا كفرد فقط بل هي مصلحتي انا كجماعة ايضاً, أنظر للمسألة بهذا الشكل أي جماعة كبيرة تستمر أكثر من أي فرد فيها, الأفراد يتغيرون و تبقى الجماعة, لذا فإن تضحية الفرد من أجل الجماعة تشبه إلى حد بعيد تخلص الشجرة من أوراقها في فصل الخريف لكي تبقى الشجرة على قيد الحياة, و هذا أمر موجود عند كثير من الكائنات الحية التي تعيش ضمن جماعات.

الرد :

المثال غير سليم ، الشجرة تتخلص من الاوراق رغما عنها ، و انت تتخلص من اظافرك الطويلة ليست برغبتها هي ، بل برغبتك انت .. نحن امام من يضحي برغبته لاجل الجماعة التي لم تطلب منه ان يضحي لاجلها ، بل ربما لم ياته منهم إلا السوء .. المثال غير دقيق إلى حد بعيد ..

والامر العجيب الاخر انكم تتكلمون عن استقلالية الفرد عن الجماعة وان قيمته في فرديته وانه هو بحد ذاته كون كامل وكيان مستقل ، وهذا تناقض ؛ لانك الان انت وهاريس تعلنان أن المجتمع هو كل شيء في حياة الفرد ، اي سحقتم ذاتيته ..  يا اخي : لا يوجد احد يشعر بالاعجاب نحو الجماعة اصلا ، كل الناس تنتقد المجتمع ، ويصفونه باسوأ الاوصاف ، المهم الا يذكر اسماء .. انظر الى صحف العالم والى كاريكاتيرات العالم ، كلها تنتقد الجماعة .. فكيف ياتي شخص ليضحي بنفسه لاجل جماعة هو ينتقدها اصلا ؟ لا يستطيع عقلي ان يتقبل هذا ، فمعذرة ..

ثم انه سيموت ، فكيف سيستفيد من الجماعة ؟ وانتم تقولون ان الجماعة ما وجدت الا للفرد ! بئس هذه المصلحة ! ان يقتل نفسه بارادته دون ان يضغط عليه احد ومن اجل الجماعة التي لا يستطيع ان ياخذ منها ولا سلفة بدون فوائد ! يضنون عليه بالمال ، فيعطيهم روحه ودماؤه !! ما هذا الاخلاص المجنون للجماعة ؟ كل الامراض النفسية سببها الجماعة ..

هذا كلام خارج نطاق المعقولية ، ولا يستطيع ان يصدقه الا الماديون ، و هم يرونه مقنعا جدا ! ولا غبار عليه ! كل هذا لاجل ان يسحقوا وجود الاخلاق كدافع معاكس للعقل المادي .. الاخلاق تتحرك في معزل عن التفكير المادي ، ولم يقم احد بعمل اخلاقي وهو يحسّب مصالحه ..

لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يفقر والاقدام قتاّل ..

معذرة ، فالفكرة ميتة في مهدها ، ولا تستطيع الصمود .. و هي صالحة لاصحاب الهوى المادي وتكفيهم فيما يبدو ، لان صاحب الرغبة يكفيه القليل من المنطق ..

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق