الأحد، 29 يناير 2012

حوار حول المادية (13)



ياسين :

أي أن الدين القادم من القوة الخارقة استنسخ أخلاق البشر و عدل عليها قليلاً, و كمثال آخر. لا أذكر الآية القرآنية التي ورد فيها قانون حامورابي الشهير "العين بالعين و السن بالسن".
عملية تطور الأخلاق هي عملية طويلة و تحتاج إلى أجيال و لكن أيضاً الوجود البشري العاقل مضى عليه الكثير و بالتالي فإن هذه الأخلاق قد تغيرت و تقلبت ربما آلاف المرات حتى أننا لن نتعرف على صورتها الأولية, و عندها سيسهل علينا أن نفترض أن منشأ الأخلاق مختلف عن الطبيعة المادية للبشر

الرد :

الأخلاق لا تتغير في دوافعها ، بل تتغير ملامستها وإخراجها للواقع ، فدافع الكرم وقيمة الكرم هي واحدة لكنها تأخذ صوراً مختلفة بحسب البيئات،  بل وبحسب الظروف ، فشخص يعطيك جالوناً من الماء في الأوضاع العادية لا يعتبر كرما كبيراً ، لكن إذا تصورنا قافلة من العطشى وأعطاك أحدهم جالون ماء ، أليس كرماً فياضاً؟؟

الفلسفة المادية تعاني من السطحية ، فهي تتصور ان الأخلاق تتغير ، ولو سايرناها لتصورنا شعباً يتقزز من كرم حاتم الطائي ، وشعباً آخر يستهجن شخصية البطل اليوناني "أخيل" ويفضل الجبان عليه ، وشعبا آخر يكره قصة قيس وليلى ويراها من الأدب الرخيص وأن الدعارة أنبل منها ، ولوجدنا الإنجليز بعد أن تقدموا وتغيرت أخلاقهم يتمنون أن ريتشارد قلب الأسد لم يكن منهم يوماً من الأيام بسبب أخلاقياته التي أصبحوا يكرهونها ، ولأصبحت شخصية شايلوك معظمة ومبجلة عند  الإيطاليين ، فهذا تسطح يصعب تحمله .

صور الأخلاق هي التي تختلف ، لكن الشيء نفسه واحد ، فان يطلق أحدهم الرصاص فوق رأسك دون سبب.. أمر فضيع أخلاقياً ، لكنه من صور الكرم عند بعض القبائل! بل حتى عند بعض القبائل النائية في الغابات من صور كرمهم أن ينام الضيف مع زوجة المضيف! في حين أن هذا العمل يعتبر دناءة عند شعوب أخرى ، فالخلق نفسه لم يتغير وهو الكرم ، لكن طريقة ترجمة هذا الكرم والتعبير عنه هي التي تختلف تبعاً للظروف والأوضاع الاقتصادية والبيئية ، فلا يحق للعقل المادي أن يقول ان الأخلاق تختلف من  مكان لآخر وأنه لا يعول عليها وليست ثابتة . فيجب التدقيق قبل القول. لأنهم يخالفون الحقيقة بوجه بارد ببرودة المادة ويظلمون الإنسان .

ولو كانت هذه النظرة الغريبة هي الحقيقة لسقطت كل الآداب القديمة لأن العالم تغير عنها ، فلماذا يقبل الناس على الأدب الكلاسيكي بشغف ويتفرجون على الأفلام التاريخية ويستمتعون بشعر الأقدمين الذي يتغنى بالفضائل بل ويحفظونه ويرددون أسماء أبطال الأساطير مع أنهم يعلمون أنهم أساطير ، لكن الفضيلة ليست أساطير، لماذا؟ أليس زمنه ولى؟!

ولم يشكك أحد بالأخلاق إلا الماديون بعد القرن الثاني عشر وهي نظرة غريبة على العالم، الأخلاق ثابتة لأنها مرتبطة بدوافع الإنسان العليا (والباقية بقاء الإنسان) ، التي لا يؤمن بها الماديون لهذا عجزوا في تفسير الأخلاق ، يريدون أن يفسروا الأخلاق بناء على الدوافع الدنيا ومن هن تظهر الصعوبة . إنها بنفس صعوبة من يريد جر القطار بالحصان ، ويدخل الجمل في سم الخياط ، فالزمن سوف يتجاوز مرحلة الفلسفة المادية ، وحتماً سيكون ذلك عاجلاً أو آجلاً ، لأن دخولها في التفاصيل هو الذي سيسقطها ، وهي ملزمة أن تدخل في التفاصيل وهي لا تحب ذلك ، مثلما قلت أنها لا تفسر السلوك .

لا قيمة للصور طالما ان الاخلاق لم تتغير ، و لا يمكن لها ذلك ، و هي ثابتة منذ ان وجد البشر ، فلماذا بذل المجهود وراء الصور ؟ انظر اليها بالنسبة للفرد نفسه ، تجد ان صورة الكرم عنده تتغير اكثر من مرة في حياته ، وكذلك بقية الاخلاق ، ولكن الدوافع ابدا لا تتغير .. بل تتغير صور الكرم مع الفرد عندما ينتقل من بلد الى اخر ، فإذا كان في قرية بدوية ، تجده يكرم ضيوفه مثلا بان يذبح لهم خروفا ، لكن لا يستطيع ان يفعل هذا في اليابان مثلا ، سيكون ذلك امرا غريبا و لن يعطي نفس شعور الكرم الا اذا استطاع ان يفهّمهم الصورة .. ولكن الدافع لا يحتاج إلى ان يفسره لهم .. كل ما في الامر ان يربط الصورة المجهولة بالنسبة لهم بالدافع المعلوم عند الجميع والمشترك الفطري ..

 اذا انتم تسعون إلى ما ليس له قيمة حقيقية وهي الصور المتغيرة ، وتريدون ان تأرخوا للاخلاق من خلالها ، على اساس ان لها بداية مفترضة كأي موضة من الموضات . هذا هو التسطح ، والتسطح يعني الاكتفاء بالصورة المادية للشيء دون البحث عن مضامينه و مفاهيمه ودوافعه ، اي نصف الحقيقة او اقل ، الفلسفة المادية اذا هي التسطح بعينه ، و هذا ليس سبا او شتما بل حديث منطقي ادافع عنه .. انت نفسك تصف اي شخص بالسطحية اذا اكتفى بالقشور المادية و ظواهرها دون النظر للدوافع المعنوية ، كما انك لا ترض ان يقيمك احد بموجب ما تلبس فقط ، فلماذا تقيّمون الاخلاق بموجب لبسها وصورها فقط ؟ هذا من صور التناقض .. بعبارة اخرى : المادي هو الشخص الذي يقيم غيره بما لا يرضى ان يقيـَّم به هو .   

.
ياسين :
و أعود لأقول المصلحة هي ليست فقط مصلحة الفرد بل هي أيضاً مصلحة الجماعة, و لماذا تقوم بفعل مفيد للجماعة بإرادتك, هذا لأنك تدرك حاجتك للجماعة,

الرد :

هذا غير صحيح ، قد تقدم خدمات لجماعة انت مغادر بلدها الى غير رجعة ، يجب تحري الدقة وشمولية الاوضاع . و يجب على النظرية الصحيحة ان تشمل جميع الاوضاع وتغطيها بنفس القوة المنطقية . وهذا غير متوفر في الفلسفة المادية لانها نصفية .. تنظر الى الجزء الظاهر من جبل الجليد فقط . لو كان الكلام صحيحا بان المصلحة هي المتحكمة لارتبط الاهتمام الاخلاقي بسرعة تحقق المصلحة وسرعة توفرها ، وهاذ غي رموجود في الاطار الاخلاقي ، هناك من يساعد رجلا عجوزا وفقيرا ، لا امل ان يرد الاحسان ، وربما يكون هذا العجوز منبوذا من الجماعة ويلحقه عار في سمعته ، اذا لمن يقدم هذه الخدمات ؟ لا مصلحة فرد ترجى ولا مصلحة جماعة ايضا .. وقد يكون بلا دين اصلا أو قد يكون دينه مما لا جنة فيه ولا نار .. كيف تفسر مثل هذه الحالة وتشخصها ماديا ؟ مع انه يخسر مصالحه وينفق عليه ؟ لماذا يفعل كل هذا وهو شخص غير مجنون بل من اعقل الناس ؟

ربما تقول الرضا عن الذات ، ونعود الى موضوع : فسره ماديا ومصلحيا ، ولا تحيلنا على شيء مبهم .. التملص لا يغني .. و واقعيا : الرغبة في العطاء تاتينا قبل اجراء الحسابات المنفعية ، بل وحتى قبل حساب الاضرار ، و هذا ينطبق على كل من يفعل خيرا ، سواء مؤمن او غير مؤمن ، وحتى المؤمن الحقيقي لا تتبادر الجنة والحور العين كلما اراد ان يساعد احدا او يفعل خيرا او يقول كلمة حق .. بينما في عالم البيع والشراء اول ما يحضرنا هو المصلحة العائدة علينا .. ارجو ان يكون الفرق واضحا بين العالمين ..

بل ان هذا يعني ان دافع الاخلاق يحضرنا قبل ان نفكر بعقلنا بحساب المصالح : تخيل شخصا يصرخ بك ويستنجدك ، هل ستجري الحسبة المادية قبل ان تمد اليه طوق النجاة ؟ ستجد نفسك مندفعا تلقائيا لمساعدة الغريق .. و كل ما تفكر فيه هو ما افضل طريقة لمساعدته و تفكر في شيء اخر ، ان لا يؤدي عملك هذا الى موتك .. و ليس الى اضرار بمصالحك ، حياتك وحياته فقط هي الاثمن في هذا الموقف ، مع ان هناك من يقدم حياته ايضا .. حتى لو انه قرر الا يساعده ، فالدافع تحرك في داخله قبل حسابات المصالح التي اوقفته .. يجب الا نتجاوز هذه الامور بكل سهولة ونعود لتكرير نفس التفسيرات الجامدة الغير دقيقة ..

هل كل هذا لاجل المجتمع ؟ لماذا لا يحضر في بالنا هذا المجتمع كلما اردنا عمل خير ؟ انه يحضر في بال المنافق فقط والذي لا يفكر الا بالمصلحة المادية . ان هذا الدافع يتحرك حتى و نحن نشاهد تمثيلية و نعلم انها غير واقعية ، و تجدنا نمد ايدينا الى التلفاز لكي ننبه شخصا نبيلا يترصد احد الاشرار ليقتله . و لماذا ننفق كل هذه المشاعر على شيء ليس فيه لنا مصلحة ولا يمكن ان يكون ، لانه تمثيلية !! هل نحن مجانين الى هذا الحد ؟

هل نحن نفكر في المصالح الان؟ هل ما زلت تقول ان المصالح هي دافعنا حتى ونحن نشاهد تمثيلية خيالية ؟ ان هذا يذكرنا بفرويد وهو يفسر حلم شخص يرى عزيزا عليه يموت في المنام و يبكي ، و يصحو فزعا من نومه ، ليجد العبقري فرويد يقول له : انك تتمنى له الموت ، حتى لو لم تعترف .. انها رغبة مختفية في داخلك تتمنى موته ! هكذا يفسر الماديون انبل المشاعر الانسانية ، لانهم لا يقرون بوجودها ولا يعترفون الا بالمادة التي لا قيمة لها الا من خلال مصلحتهم بها .      

ياسين :

و من ناحية أخرى يختلف الميزان الذي نقيس به التكلفة و المردود من شخص إلى آخر. فالبائع الغشاش يريد الربح و الكسب, و البائع النزيه يريد أيضاً الربح و الكسب, لكن لكل منهما طريقته في النظر لمسألة الربح, الغشاش يقوم بهذا الفعل من أجل الكسب المادي السريع, لكن النزيه يقوم بذلك لكي يكسب الزبون و بالتالي ستدوم العلاقة مع هذا الزبون و سيستمر الكسب من هذا الزبون. قد يدرك البائع النزيه هذا و قد لا يدرك و لكن هذا ما يحصل.

الرد :

انت قارنت بين شخصين لا يقترنان ، و جمعت بين اثنين لا يجتمعان : فقط برابط انهما يمارسان البيع ! يا اخي كل واحد منهم انسان ، وله مبادؤه ويختلفون في الانسانية والمادية ، ألأنهما يمارسان البيع صار كل واحد منهما نسخة من الآخر ؟ هذه نظرة سطحية واختصار للانسان .

البشر نوعان وليسوا نوعا واحدا ، تبعا لاختيار الدوافع الدنيا او العليا ، لم لا تقول ان الاول اختار الدوافع الدنيا ، فهو ليس مجنونا .. و سوف احرجك عندما أسالك : ايهما الاذكى والاصوب طالما انك ربطتهما بهدف واحد ؟ انت جعلت منهما محبين للمادة و ان كلاهما مادي ، و هذا افتراض بدون دليل ، فهما اختلفا في الطريقة فقط ، فلماذا يختلفان الى هذا الحد مع ان هدفهما واحد وهو جمع اكبر قدر من المال باقل مجهود ؟ وهذا الهدف اقرب للتاجر الاول ، فالمهم الا ينكشف الغش والتحايل ، وهذا ما يفعله اكثر التجار الماديين ، فهم يتبارون في مدى ذكاؤهم في هذه الناحية . التاجر الثاني خالف الهدف ، و بذل مجهودا اكبر ومردودا اقل ، وابعد ثمرة ، مع انها غير مضمونة ..

اذا ايهما الاعقل ؟ من وجهة نظر مادية : الناجح هو الغشاش ، لانه ارتبط بالهدف مباشرة ، وهو جمع اكبر عدد من المال باسهل طريقة و اقل مجهود .

انت تتصور لأنه صار بائعا يعني انه يـُؤثـِر المادة على اخلاقه و على قيمه ؟ الا يمكن ان يكون اخلاقيا وبنفس الوقت يكسب رزقه بعرق جبينه ؟ بل و يضحي بالمصلحة المادية اذا تضررت انسانيته ؟ هذه مشكلة ، ألأن الإنسان يأكل و ينام وبقية العمليات البيولوجية فيه ، جعلتموه مثل الحيوان ؟ و لأن هذا يمارس التجارة والاخر كذلك ، جعلتهما ماديين دفعة واحدة ؟ اذا قال التاجر الثاني : ان هدفي فقط هو جمع المال ولا يهمني القيم ولا الاخلاق ، وانا بهذه الطريقة استثمر .. سنقول له انك تاجر مجنون ، تضيع الفرص السانحة الى فرص غير سانحة ، لكنه لم يقل هكذا .

هو يتعامل مع الناس باخلاق ، وهو يمجد الاخلاق بحد ذاتها ، ويهتم بالكسب ما دام غير متعارض مع اخلاقه . لماذا لا نفهمها بهذه الصورة الواضحة حتى لا نقول عن اي منهما انه غبي للإنصاف ، ويكون لكل واحد منهما خط في الحياة .. و لكن اذا تبعنا فكرتك سنحكم على احدهما بالغباء حتما .. ان الهدف واحد والطريقة متناقضة .. هذا دليل على انه لم يختر المادية منهجا لحياته ، و الا لفعل مثل فعل جاره . فهو الانسب ماديا .. فجاره يعمل على المضمون .

في النهاية ، الخطأ هو في اختزال الانسان بالمادة ، دوافعا و وجودا ، والخطأ الثاني هو اعتبار ان البشر كلهم شيء واحد . بسبب انهم يحتاجون للاكل وللشرب ، هذه نظرة متشابهة ، جعلت البقر يتشابه على بني اسرائيل من قبل . والتشابه جهل و ليس علما ، التفريق هو العلم . يجب ان نبني نظرتنا على الاختلافات و ليس على التشابهات كما فعلت الداورينية ايضا المبنية على التشابه .   

ياسين :
مقتبس من الوراق:
أنت الآن تربط الفن بالقواعد ، ومن لا يجيد القواعد لا يجيد الفن !! اذا هو علم و ليس فن !! قد ياتي احد لم يقرا عن المدارس الفنية ولا الادبية ولا كلام النقاد ، ثم يحلق في سماء الادب والفن لوحده ، وهم يلاحقونه ويقيمون مدارس على ما فعله !! كلامك هذا لا يقوله من يعرف حقيقة ما هو الفن
..
و الإجادة لا تعني أن تكون فناناً بل أن تكون قادراً على فهمها حتى دون ممارستها, و هذه الاجادة بحاجة إلى ثقافة و اطلاع و فهم اساسيات الفن
الادب و الفن ليس معيارهما القواعد كما تتصور ماديا ، و الا لاستطاع اي احد ان يكون فنانا و مبدعا بمجرد ان يحفظ القواعد .. و لما عد المبدعون على اصابع اليد .. اذا ما مقياس الفن والادب ؟ انه الشعور الانساني الحر الذي لا تحده قواعد ولا قوانين ، أيضا  مثله مثل الاخلاق التي عجزتم ان تكتبوها على شكل قوانين .. معذرة فالعقلية المادية هي الابعد عن الفن و الادب ، و هي الاقرب للتجارة و الراسمالية والبيع و الشراء . ودخولها على الادب والفن دخول ٌبلا بطاقة ، لأن المجال هنا ليس ماديا .. انه مجال انساني بحت ، و المادي لا يعترف بالانسانية إلا من خلال الغرائز ، و يعترف بالمصالح المادية فقط ..

هنا يمكن أن ترى أن التجزئة التي قمت بها لم يكن الهدف منها الموضوعية, لأن الفكرة هي تقييم الفن و ليس الممارسة الفنية,

الرد :

كلامي السابق ينطبق على فهم الأدب والفن وتلقيهما أيضا, القواعد بحد ذاتها لا تعطينا انطباعا بالجمال, وبما أن المبدع انطلق وراء شعوره كذلك المتلقي يجب أن ينطلق وراء شعوره وإلا سيبقى الشعر عبارة عن رصف للكلمات, وعلم النقد والبلاغة لا يجعلانك متذوقا بالشرط إذا راعيتهما..

ما جاء من الشعور يفهمه الشعور, ودور العقل تكميلي, بما في ذلك القواعد, أي تحديد المسارات, لكن مالذي سيجري في هذه المسارات؟ هذا أمر يقيمه الشعور وليس العقل, لا نستطيع أن نقول من أن يفعل كذل وكذا وكذا من القواعد والقوانين سيكون شاعرا محلقا, أو من يعرف كذا وكذا وكذا سيكون متذوقا جيدا, هذا غير صحيح, وإلا لم نستطع أن نتذوق الشعر العمودي قبل أن نعرف علم العروض وعلم البلاغة ومدارس النقد الأدبي العربية والأجنبية . الشخص العامي يتذوق الشعر كما يتذوقه العالِم باللغة والأدب وهو لا يقرأ ولا يكتب أحيانا, هذه وسائل وليست غايات, شأنها شأن كل الأمور المادية:وسائل, الشعور هو من يحدد قيمتها, بعبارة أخرى لا شيء يحكم الإنسان من خارجه, ولا شيء يقيد الإبداع ويقننه..

ولا يوجد سقف أعلى للجمال ولا للعبقرية, بينما يوجد سقف أعلى للعلم وسقف أعلى للمنطق وحد تقف عنده القواعد والقوانين, إذا الإنسان هو أكبر من كل شيء حوله, يحكم الأشياء ولا تحكمه, حتى قوانين البقاء يكسرها المضربون عن الطعام ويجعلون أنفسهم يموتون من الجوع إذا هم شاؤوا,إذا الإنسان لا يحكمه شيء  ولا حتى حاجاته الضرورية للبقاء, حتى المنطق لا يحكمه فهنالك من يخالفونه عمدا, وهذا يشير إلى حرية الاختيار لمطلقة للإنسان والتي سيحاسبه الله بموجبها.

ياسين :
الممارسة الفنية بحاجة إلى استعداد فطري تولد مع الشخص و الغريب أن الموهبة الفنية تورث حتى الجيل السابع, أي أن كنت أنت تجيد الرسم فهناك إحتمال كبير أن يكون أحد أبنائك و ربما كلهم يجيدون الرسم "هذه مادية", و ربما أيضاً أحفادك و بعدها أبناء أحفادك

الرد :

اذا اين احفاد مايكل انجلو و رافاييل وليوناردو دافنشي وشكسبير والمتنبي واحمد شوقي وحافظ ابراهيم وطه حسين ، وإلى ما لا نهاية له مادامت انها مادية ومتوارثة ؟؟ هذا كلام غير صحيح على الاطلاق ، بل بالامكان جعل اي انسان فنان ، ليس بالقواعد فقط ، بل بتحريره من قيود الاخرين . فعلى قدر التخلص من مشاعر النقص و تعظيم الرموز والاخرين ، تستطيع ان تنطلق عبقريته اذا هو شاء ، بل و في اي مجال في وجهة نظري ، فليس الرسم خاصا باحد دون احد ، بل ولا حتى الشعر ..  واعرف انني لو كنت اريد ان اكون رساما لاستطعت ، ولو اردت ان اكون رحالة لاستطعت ، ولو اردت ان اكون شاعرا لاستطعت ، الى غير ذلك .. و لقد جربت هذا بنفسي ، ولا اظن ان احدا من اجدادي يمتلك كل هذه الهوايات ..

تفسير مادي ضعيف كالعادة .. هذا غير انه لم يثبت مادية المادة الراسمة في داخل جينات الفنان . ما اسهل الكلام عن ظاهر الاشياء ، وما اصعب الغوص في بواطنها . اما ان تجد عالما صار ابنه عالما ايضا او شاعر و صار في ذريته شاعر او شاعرة ، كذلك تجد تاجرا و في عائلته تنتشر روح التجارة ، هذا اسمه تلقي وتسهيل للمهمة و كسر للحواجز، لا يمنع الناس عن الابداع الا الحواجز التي يقيمونها هم او يقيمها الاخرون امامهم . لهذا يسهل على ابن التاجر ان يدخل في عالم التجارة ، و سيرى ابن المثقف ان التجارة عالم صعب وان زميله هذا عبقري في التجارة ، حيث تجلت عبقريته في هذا المجال ، ونسي ان زميله رضعها من الصغر ..

الكلام نفسه سيقوله ابن التاجر عن المثقف والثقافة ، مع ان العكس احيانا قد يقع حسب اسلوب التربية ، اذا وضع الاب حواجزا دون الابن ، واقنعه انه غير صالح لهذا المجال لأنه لا يملك القدرات ، حينها فعلا لن يملك القدرات لان الحواجز بنيت . هذا كل ما في الامر.. وان كان امرا قاسيا و من الصعب ازالته .

إنها مجالات للسلوك والتعبير الانساني فلماذا تكون حكرا على احد دون احد ؟ لا يوجد شخص جيناته شاعرة ! وآخر جيناته عقارية ! وثالث جيناته كمبيوترية !! وآخر جيناته تخطيط مدن وشوارع ! الجينات لا تعرف عالمنا المادي المبتكر و المتجدد والمتغير .. الجينات مادية وتورث صفات مادية ، اما السلوك والعبقرية فلا شأن لها بالجينات .. بموجب كلامكم : لو استنسخ شكسبير عشرية نسخة او مليون ، ستمتلئ انجلترا بالشعراء !! الذين سيكتبون هاملت وتاجر البندقية مرة اخرى . هذا كلام مضحك .. العبقرية ليست مادة حتى تورث ، انها ثقة بالنفس .

اديسون العبقري اخرجوه من المدرسة لغبائه ، لما شجعته امه واعطته الثقة بالنفس تجلت عبقريته، لماذا لم تتجلى في المدرسة لرجة انه وصف بالغباء ونسيان حتى اسمه بسبب الارباك ؟ ام ان جيناته لم تعمل الا في المنزل ؟ ومن هو المخترع من اجداد اديسون ؟ لي صديق كان يستصعب الشعر ولا يستطيع حفظ بيت واحد ، لما كلمته بهذه الطريقة اصبح يحفظ الان من الشعر اكثر مني ، بل ويحاول ان يقول الشعر ، فهل انا زرعت فيه جينات من اجداده ؟ وشخص كان يخاف من الرسم لأن استاذه وضع الحاجز امامه ، مع التشجيع استطاع ان يرسم لوحة جعلته ينبهر وينصدم بنفسه ، وعرف ان كل الطرق مفتوحة امام الانسان ، و لكن الانسان دائما يقف عثرة امام نفسه .

لعلك لاحظت كيف ان الفكر المادي وهو يربط الابداع بالوراثة كيف انه يعيق الابداع ولا يشجع الانسان على المحاولة .. فلماذا يحاول وجيناته لم تنطق بالعبقرية ؟ وهكذا المادية دائما ضد الانسان وليست معه .

هناك فنون لم تكتشف بعد ، هل ستُنسب إلى الجينات ايضا و نقول ان جينات المبدعين فيها ذلك الحين ستكون هي السبب مع أنها مجالات جديدة؟    


ياسين :
التقييم الفني بحاجة لفهم قواعد الفن و المدارس الفنية, فبالتأكيد هناك فرق بين المدرسة الواقعية و المدرسة الانطباعية أو السيريالية في الفن, و بالتالي من يريد أن يقيم عملاً فينياً يجب أن يعرف كيف ينظر للعمل الفني و أين يركز. فليس منطقياً أن تنتقد الأشكال المركبة و الغريبة للأشخاص و أشياء في العمل السيريالي, أو أن تنتقد غرابة الألوان في العمل الانطباعي, و أيضاً سيكون من الغريب أن تتجاهل اللون الأحمر للسماء في عمل واقعي مثلاً. هذا ما أردت قوله فهمك لقواعد الفن يجعل تقييمك أفضل.

الرد :

ما أشرت إليه يجعلك أفضل بالنسبة لمن يتعاطون هذه المدارس ويدرسونها وينطقلون منها ويحترمونها , لكن الكلام لا يُطلق على الفن عموما, هذه مدارس مقترحة أعجبت البعض وقعَدوا لها لكنها ليست هي الفن, وحصر الفن في هذه المدارس بحد ذاته عمل غير فني . نعم سيفهم عليك متابعوا هذه المدارس وتفهم عليهم ويعتبرونك متلقيا جيدا, لكن هل انتهى الفن بأن يكون محكوما ببضعة مدارس؟ لأنك تعظم هذه المدارس رأيت أن الإنسان لا يستطيع ان يقيم العمل الفني دون ان يلم بها ..

أنا مثلا لا احترم هذه المدارس بل كل المدارس الأدبية أو الفنية قديمها و حديثها, ولا حتى علم العروض,  وأجد نفسي قادرا أن أقيـّم ما يُعرض أمام شعوري وأدافع عن ذلك التقييم حتى بالمنطق أحيانا كثيرة , و حتى لو خالف تقييمي آراء أتباع هذه المدارس ونقادها (المعجبين بها طبعا لأسباب اجتماعية في الغالب) .. ليلتزم بها من يعظمها , لكن لا يُفرض تعظيمها على الجميع .

وعندما انتقدوا ابا العتاهية بأنه لا يلتزم بقواعد العروض العربي قال انا أكبر من العروض ، وما المدرسية إلا تقعيد وتقنين يحتاجها غير الواثقين بذوقهم وإحساسهم . و التقنين تضييق و وضع لحواجز لا داعي حقيقي لها ، لأنها آراء واجتهادات اناس معينين التزم بها ذوقهم . و على هذا الشكل المدرسي سوف يلزم الناس بأذواق مجموعة قليلة , وهذا مالا نريده للفن والأدب ..

لينشئ من يشاء مدرسته فهي خاصة به و بمن يعجبه ، لكن لا يحق لنا أن نصف من لا يتقيد بهذه المدارس و لم يدرسها بانه لا يستطيع ان يقيم أدبا فضلا عن أن يبدع , ولا يحق لنا أن نعيب على ذوقه الأدبي ، فالدارس شيء والذوق شيء آخر . إن هذه محاولة قمع يقوم بها الفكر المادي مرة أخرى ، وهذه المرة في مجال الإبداع الفني والأدبي , ويريد ان يلزم بها الناس بدون ملزم حقيقي بمدارسه المرتبطة بظروف الغرب ومؤثرات مجتمعهم .. الفن ليس هو الغرب, الفن فن والغرب غرب.

ليست السيريالية او التكعيبية شيء جميل بالنسبة لي, لا فكرة ولا لوحات ولا هدفا, فلماذا ألتزم بها ؟ بل لماذا أتعمق فيها و هي لم تعجبني من الاساس؟ لكني لا أمانع من أعجبته من أن يستمتع بها ، وإن كنت أعلم في داخلي أنه لا يستمتع بالفن قدر ما يستمتع بالسمعة كما يتخيل ليقال عنه أنه مثقف ثقافة فنية , و هذا شأنه على كل حال, و سيبقى الابداع هو ما يلامس الشعور الانساني بطريقة أقرب و أوضح .

هذه المدارس ميتة في مهدها ولكنها مدعومة إعلاميا ورأسماليا لأنها تخدم الفكر المادي . على الفنان الحر والاديب الحر أن يتحرر من ربقة المدارس ، فما هي إلا قيود بغيضة مفروضة على الثقافة , و بعضها ينتمي إلى مجانين أصلا ! فهل نلتزم بجنونهم ايضا ؟ إنهم هناك يمجدون أعمال المجانين أكثر من أعمال العقلاء , ويعجبهم اي شذوذ عن القاعدة حتى لو كان متجها إلى الخطأ أو القبح .. فالشذوذ نفسه صار عبقرية, ومن هنا عظموا المجانين في تلك الثقافة الغريبة على البشر, و دخول فنان إلى مصحة عقلية يضاعف من قيمة لوحاته ! اصبح الجنون يزيد الإبداع والعبقرية! إذا لماذا سمي جنونا؟ !

فوضى منطقية لا تحتمل النقاش .. هذا هو الغرب.

حاولت ان أستمتع بلوحة الجورنيكا لكنني فشلت, و رأيت القبح أمام عينيّ , بحثت عن جمال اللوحة الزرقاء لبيكاسو فوجدت بطاقة البريد أجمل منها , تفرجت على لوحات سلفادور دالي ولا شيء غير الجنون والتشويه بدا لي .. إنها رسومات مشوهة و وجوه مقطعة تخالف الطبيعة .

إن الشعور الذي يعطي الاشياء جمالها يكره التقطيع والخطوط المستقيمة ، لأنها غير موجودة في الطبيعة و يحب التناسق ويكتمل على قدر تكامل ذلك التناسق , فأين الجمال في فيل خرطومه قصير و له اقدام تشبه عصا الزانة ؟ أين التناسق؟ إن هذه المدارس تخالف أبسط بديهيات الجمال , فمن اين جاءها جمالها وقيمتها ؟ لست ادري .. ولا أحد يدري.. علينا أن نقبلها كما أُنزِلت, يكفي جمال الشذوذ والغرابة والتشويه ! إنها المادية تحكم, وهذا هو إبداعها . تصفحت كتابا عن اشهر اللوحات في الغرب, فوجدت الجمال يزداد كلما رجعت في التاريخ إلى الوراء.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق