الأحد، 29 يناير 2012

حوار حول المادية (6)



ياسين :

اشباع الحاجات الشعورية عند الانسان هي مصلحة, تماماً مثلما نأكل لأننا نريد ان نشبع حاجتنا للطعام و الطاقة, فإننا نساعد الآخرين دون مقابل من أجل أن نشبع حاجتنا للرضى عن الذات.

الرد :

هل الرضا عن الذات امر مادي ؟ انتم تقولون كل شيء مادي !! هنا انشرخت النظرية !! يجب عليك ان تثبت مادية كل شيء ، بما فيها الدوافع والرضا عن الذات .. الست تلميذا للفلسفة المادية ؟ لا يصلح لمادي ان يقول : علينا ان نشبع حاجة الحب الخالص من الشهوات المادية ! هنا هو لا يكون ماديا ، انه روحاني الان ! اذا لماذا لا يقول : علينا ان نشبع حاجة الاخلاق وحاجة العبودية لله ؟ مع انهما مستقلتان عن النفع المادي ؟ حينها سيتفق معنا ولن يكون ماديا ..

هكذا نرى مدى الهلهلة وعدم الثبات المنطقي في النظرية المادية ..    

ياسين :

و هنا يتساوى كل البشر فالسلوك الذي يبدو متناقض عند الطماع و عند الكريم له نفس الدافع و هو إشباع الرضى عن الذات, فالطماع يرضي ذاته إن أخذ أكثر, و الكريم يرضي ذاته إن قدم أكثر.

الرد :

كيف يكون فعلين متناقضين (الأخذ والعطاء) لهما نفس النتيجة (الرضا عن الذات) ؟ هذا كلام غير منطقي ، ام ان المنطق نفسه غير مهم في الفلسفة المادية ؟ اذا كان هكذا قولوها و أريحونا !! وكيف ترضى عن الذات وأنت تفعل فعل غير مادي ؟ و الفلسفة المادية تقول : ان رضا الذات يتحقق في الاخذ المادي والمصلحة !! اذا تناقضت النظرية هنا َايضا ! والناس لا تستطيع ان تثق بنظرية متناقضة مع نفسها . و أنت تقول عن الرضا عن الذات انه يتحقق بعد العطاء ، و المنطق ان يتحقق بعد ان يكافئه المجتمع ، وليس بعد العطاء لأنه  هو الغاية من العطاء من وجهة نظركم المادية ! فكيف يعطي و يفرح وهو لم ياخذ مقابلا ختى الان ؟ المفترض ان يكون قلقا وليس مبتهجا و راضيا في هذا الموقف ! مثل عملية البيع و الشراء : يظل البائع قلقا حتى يستلم نقوده ! و يبتهج اذا عدها ودسها في جيبه !

ألم تلاحظ حتى الان ان هناك فرقا بين الاخلاق و بين البيع والشراء المادي ؟ هذا يثبت لك ان للانسان طبيعتان وليس طبيعة واحدة .. انتم لا تعرفون الا الانسان (البائع-المشتري) لكن في داخله انسان اخر ، انتم اثبتم وجوده ! عندما قلتم : نحقق رضا الذات في العطاء بدون مقابل ! اي انتم اسقطتم النظرية المادية التي تفسر سعادة الانسان بالمادة ، وان كل علاقاته و مشاعره مبنية على مصالح مادية .. أنتم نقضتم هذا الاصل عندما قلتم بانه يبتهج بالعطاء ، دون ان ياخذ المقابل .. هذا الانسان الذي تحدثتم عنه ليس ماديا ..

هذا تهافت آخر .. ما لنا الا السكوت له ..     
ياسين :
بالعودة
للأخلاق. الرضى عن الذات هي حاجة تتطلب دائماً الاشباع, و الكرامة هي واحدة من هذه الحاجات. تخيل أن المجتمع لا توجد فيه أخلاق ستجد أن الصراعات قد كثرت, حتى ان الحديث عن جماعة لن يكون له معنى لأنه لن تكون هناك جماعات. و بالمقابل شخص يعيش منعزلاً عن الناس لن تجد لديه أخلاق اجتماعية, ببساطة لأنه لا يحتاج إليها. الأخلاق هي قوانين غير مكتوبة نعرفها من خلال التربية و نطورها من خلال التفكير.


الرد :

كل هذه امور معنوية لا تتناسب مع التفسير المادي ، و الكرامة لا تؤكل ولا تشرب ولا تلبس ولا تنكح ، والمادي لا يعترف بهذه الاشياء سوى بالمصلحة المادية وكل ما له جرم من الموجودات ..

ثم لماذا لم تكن مكتوبة طالما انها قوانين نفعية كبقية القوانين النفعية الاخرى ؟ هذا الخلط بين المادي والمعنوي هو سر فشل التفسيرات المادية .. ليتك تجيب على هذا السؤال : لماذا لم تكتب و تدخل إلى المحكمة ؟ اليست قوانين تمنعهم عن الصراع ؟ لماذا لا تكتب و تفرض ما دام انها نفعية ؟  و لماذا تعطى اسما مستقلا لوحدها : الأخلاق ؟ لماذا لا تسمى "مصالح مشتركة" ؟ انتم تقولون ان الاخلاق هي المصالح ، ثم لا تضعون لهما اسما واحدا مع انهما شيء واحد في تعريفكم !! هذا ليس من الموضوعية .. 
 
ياسين : أما عن الهدف السامي أريد منك ان تعطيني مثالاً عن هدف سام لا يخدم مصلحة الجماعة التي ينتمي لها الفرد, اسرة كانت أم أمة أو حتى مجتمع انساني. ما نقوم به إما من أجل مصلحتنا كأفراد أو مصلحتنا كجماعة.

الرد :

اولا ماذا تقصد بالمصلحة ؟ انت مادي ولا تعرّف المصلحة الا بالمصلحة المادية .. الاهداف السامية قد تكون ضد المصلحة المادية للفرد والجماعة .. نعم القيم هي في صالح الجميع ، لكن انتم تشترطون فوائدها المادية فقط ولا ترون غيرها . و من هم بالمقابل يرون المصلحة المعنوية هي مصلحة بحد ذاتها ، و هو ما يسمى بالخير .. انت تحاول ان تخلط بين الفلسفة المادية والمثالية الاخلاقية ، وهكذا تكون لا هنا ولا هناك ! تحاول ان تجمل وجه المادية القبيح .. لكنك كسرت منطقها .. كمن اراد ان يكحل العين فعماها ..

المادي لا يعترف بوجود سمو او نبل او قيم او فضائل او اخلاق . يعترف فقط بتبادل منافع مادية ، هذا هو المادي .. يفسر كل شيء من خلال المادة , بما فيها العلاقات الانسانية .. ماذا تقول في شخص وعظ شخصا و انتقده و جعله يبكي ، و عاد ذاك ليشكره .. اين المصلحة المادية المباشرة هنا ؟ و نتيجة لهذه الموعظة ، ارجع كل امواله المشكوك فيها الى اهلها ، و الآن هو خسر ماديا ! ومع هذا يشكر ! فاين المنفعة المادية ؟ هل هو يشكره لانه جعله يخدم المجتمع ، وهو يكرهه ؟ ام لأنه دله على طريق الخير وابعده عن المادية ؟ أرجو أن تنظر الى الموضوع بعقل متجرد .. لا أن تلف و تدور من بعيد ، و الطريق الملتوي يثبت خطؤه الطريق المستقيم ، إنه تخلى عن مصالحه المادية و عاد يشكر و يحب ذلك الشخص ! مع انه خسر ماديا !

ثم انتم تقولون : كل شيء يفعله الفرد من اخلاق هو لاجل المجتمع ، في حين تنظمون المجتمع في شكل صراع : كل ينافس غيره ليسبقه ، ولا ادل من الراسمالية على هذا ، اي ان الفرد عدوه المجتمع !! و تجعلونه يفعل الاخلاق لاجل عدوه ! هذا تفسير ضعيف و متهالك من الضعف والتناقض !

كل هذا اللف والدوران ولا ان تعترفوا بوجود الاخلاق المستقلة عن المنفعة ، و التي تجعل الانسان يرحم حتى عدوه .. و تجعله يعفو و هو قادر على الانتقام .. و تجعله يضحي بحقوقه و مصالحه المادية لاجل ان يكسب المحبة ، وهي امر غير مادي .. ام انك ستقول انه يريد ان يضحي بامواله ليكسب المحبة ، ثم بعدها تبدأ المحبة تدر عليه الاموال بشكل اكبر !! التاجر المادي لا يضحي بالمضمون مقابل غير المضمون البعيد ، والا فهو تاجر مجنون ! هذا يشبه التاجر الذي يوزع بضائعه بالمجان ، على امل ان الناس سوف يحبونه ، فإذا هم احبوه ، عادوا ليملئوا دكانه بالبضائع من جديد و بالمجان !! هذا هو تفسير الفلسفة المادية للاخلاق ، و هو تفسير يثير الضحك ..        



ياسين : الفن يا صديقي كلام ذو شجون. لنقل مثلاً انك تستمع إلى شخص يتحدث بلغة لا تفهمها, بالتأكيد انت لن تعرف هل هو يلقي قصيدة ام أنه يتحدث بكلام سوقي. الفنون طورت لذاتها لغات و طرق للتعبير, و بالتأكيد من لم يتعلم هذه اللغة لن يستطيع ان يميز بين الفن و بين ادعاء الفن. و تعلم هذه اللغة أسهل بكثير من تعلم اللغة الصينية. و هنا اسأل : كم شخصاً يعرف ماذا تعنيه الرسوم الهندسية في الزخارف الاسلامية, أو ما تعنيه الزخارف النباتية, أو لماذا تطور الخط العربي و تنوع بهذا الشكل الكبير الغير موجود في العالم كله؟؟؟ سأجيب أنا, الزخرفة الهندسية تمثل الكون و انتظامه و كما أن الكون ليس له حدود الزخرفة الهندسية تأخذ هذا الشكل اللانهائي, بالمقابل الزخرفة النباتية تمثل نعم الله على البشر أو الجنة و جمالها.
كثيرون منا يشاهدون هذه الزخارف لكنهم لا يعرفون معانيها.
ضربت لك هذا المثال كي أقول ان الفن الهندسي جميل جداً و يمكن ان يحمل الكثير من المعاني الراقية إذا كان من يقوم بهذا يتقن لغة الفن.
أما عن الفنون بشكل عام, المسألة في التوازن داخل اللوحة الفنية لا يعني ان تكون المقادير دقيقة جداً, فحتى في الفيزياء و الكيمياء هناك حد أدنى و حد أعلى و لا يوجد حد دقيق جداً دون هامش خطأ. و الفن هكذا , تخيل مثلاً أنك تشاهد رسماً لوجه انسان و كان طول أنفه أكبر من طول وجهه, ستقول ان هذا ليس رسماً بل تشويه, إذا من المنطقي أن يحافظ الفنان على هذه النسب عندما يقوم بعملية الرسم أو النحت. حتى في الموسيقى هناك أزمان لا يجوز تجاوزها عند العزف و الغناء و إلا ظهر النشاز. على فكرة أنا لم اقل أن الشعر هو تتالي الحركات و السكنات, و لا يوجد شيء يسمى افضل الأوزان, و لم أقل أن المادة هي أهم شيء. دعنا ننظر للمسالة من وجهة النظر هذه, كيف يستطيع الناقد الجاد أن يقيم القصيدة الشعرية, أليس من خلال ضوابط و مقاييس تفرق بين الشعر و بين أي شيء آخر. و إذا استخدم ناقدين نفس المقاييس سيصلون إلى نفس النتيجة. و عليك يا صديقي ان تقرأ عن المدارس الأدبية و الفنية و ستجد أنه هناك ضوابط و مقاييس للعمل الأدبي أو الفني, فليس فقط الوزن الشعري كافي للحصول على قصيدة, و ليس كل القصائد لها نفس الطريقة في بناء الوزن الموسيقي. و تأكد لولا هذه المقاييس و الضوابط لكان الفنان و الدهان من نفس المرتبة الفنية. أو الشاعر و المجنون لهما نفس الرتبة الأدبية. على فكرة حتى "الماديين" الذين يروجون للمدرسة التكعيبية يحبون المدارس الفنية القديمة, لأن من يقدر الفن و يفهم لغته يقدر كل عمل فني جميل. فمثلاً عندما اسمع شخص يقول أن أغاني أم كلثوم ليست جيدة اعرف عندها أنه لا يعرف عن الغناء أي شيء. و أعود لأقول لك الفن هو لغة لها قواعدها و من لا يجيدها لا يستطيع أن يقيمها.

الرد :

أنت الآن تربط الفن بالقواعد ، ومن لا يجيد القواعد لا يجيد الفن !! اذا هو علم و ليس فن !! قد ياتي احد لم يقرا عن المدارس الفنية ولا الادبية ولا كلام النقاد ، ثم يحلق في سماء الادب والفن لوحده ، وهم يلاحقونه ويقيمون مدارس على ما فعله !! كلامك هذا لا يقوله من يعرف حقيقة ما هو الفن ..  

ياسين :

و الإجادة لا تعني أن تكون فناناً بل أن تكون قادراً على فهمها حتى دون ممارستها, و هذه الاجادة بحاجة إلى ثقافة و اطلاع و فهم اساسيات الفن.

الرد :

الادب و الفن ليس معيارهما القواعد كما تتصور ماديا ، و الا لاستطاع اي احد ان يكون فنانا و مبدعا بمجرد ان يحفظ القواعد .. و لما عد المبدعون على اصابع اليد .. اذا ما مقياس الفن والادب ؟ انه الشعور الانساني الحر الذي لا تحده قواعد ولا قوانين ، مثله مثل الاخلاق التي عجزتم ان تكتبوها على شكل قوانين .. معذرة فالعقلية المادية هي الابعد عن الفن و الادب ، و هي الاقرب للتجارة و الراسمالية والبيع و الشراء . ودخولها على الادب والفن دخول ٌبلا بطاقة ، لأن المجال هنا ليس ماديا .. انه مجال انساني بحت ، و المادي لا يعترف بالانسانية إلا من خلال الغرائز ، و يعترف بالمصالح المادية فقط ..     

ياسين :

و أعود لما قلته في أول كلامي في مشاركتي الأولى (أن الكثيرين يتعاملون مع الفكر المادي بشكل قاصر) أي هناك فكرة عن الماديين أنهم يهتمون بالمصالح الشخصية و يقدرون الهندسة (كما تنظر أنت لنا) معتنق الفكر المادي مثله مثل الباقين يحب أن يعيش حياته و البحث عن المصالح الشخصية ليس مرتبط بفكر ما,

الرد :

لماذا هو مثل الباقين ؟ وهو يحمل فلسفة شمولية مختلفة عن فلسفة الآخرين ؟ منطقيا لن يكون مثلهم إلا إذا هو تخلى عن ماديته في بعض جوانبها ليكون مثلهم .. إنه لا يعترف الا بالمادة فقط ، و تريده ان يكون مثل الباقين ؟ الا يحدث مثل هذا التطرف الفكري اختلافا عن الاخرين ؟ المشكلة ان الفلسفة المادية هي القاصرة و ليس فهمها امرا صعبا و معقدا كما تحاول ان توضح لنا : لا اله والحياة مادة ! و كل شيء يفسر من خلال المادة .. بما في ذلك الفن والادب والاخلاق .. فهل انا مخطئ في هذا الدرس الاول و الوحيد عن المادية ؟ هذه هي المادية ببساطة .. وان كان لها مضمون مختلف عن هذا ، فليتك توضحه و لو مختصرا .. 

 ياسين :

هناك الكثيرون ممن يؤمنون بالأديان و هم انتهازيون, و هناك معتنقن للمادية و غاية في التسامح و العطاء. و على فكرة هناك أشخاص ماديين من اصدقائي لا يحبون الفن التكعيبي. و آخرون متدينون يقدرون هذا النوع من الفن. المسألة مسألة أذواق.

الرد :

اذا اين الفلسفة المادية ؟ لا تحدثني عن المتهربين والمتخلين عن الفلسفة المادية أو الاديان ، وانت منهم .. نحن لا نتكلم عن الاشخاص ، بل نتكلم عن فكر ، وكيف يكون هو الوضع اذا هو طبق .. و تخلي الماديين عن اجزاء مهمة في الفلسفة المادية كما وصفت ، دليل على قصورها وعدم قدرتها على استيعاب الحياة .. وهذا دليل على ان اساساتها غير سليمة اصلا و لا تناسب البشر .. لأن نظرتها ضيقة و من عين واحدة كانت فوق الهرم ، وعاجزة عن التفسير ..

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق