الأحد، 29 يناير 2012

حوار حول المادية (7)



ياسين :

و بالحديث عن الأذواق, أنا لا أعرف لماذا أفضل الشاي على القهوة رغم أن كلاهما متاح, و لكن ما هو دليلك على أن تفضيلي للشاي هي مسألة غير مادية. لماذا قلت أن السؤال في هذا الشأن عبثي, لأن الأمر يشبه ان تسأل (محمود) لماذا انت لست (خالد) فهذا أيضاً سؤال عبثي, ما هو الفرق بين أن أفضل الشاي أو القهوة, ماهي النتائج المترتبة على هذا الخيار. و طالما أنه لا توجد نتائج فمن العبث البحث عن أسباب.

الرد :

انا استطيع ان افسر بالنسبة لنفسي مثل هذه التفسيرات و اكثر .. و بطريقة غير مادية تتعلق بالشعور و حاجاته العليا الغير مادية طبعا .. التي هي اكبر مؤثر في حياتنا ، و لكن الماديين لا يريدون ان يصغوا الى ذلك .. لان ذلك يعارض الاهداف التي رسموها لانفسهم مسبقا ، و التي بموجبها اخترعوا الفلسفة المادية .. مدفوعين اليها دفعا لا رغبة في ان يقال عنهم انهم ماديون .. لسبب انكارهم لوجود الله بحجة عدم الوجود المادي له تحت الحواس . لهذا اضطروا الى تبني الفلسفة المادية ..  

ياسين :

و رغم ذلك قال لك أحد الزملاء أن الأذواق مرتبطة بأمور مادية مثل التربية أو الذاكرة و تراكم الخبرات,

الرد :

لماذا حكمت على التربية والذاكرة بانهما ماديتان كاملتان ؟ 
ياسين :

وعلى
سبيل المثال تجد ببساطة ان الشخص نفسه ييفضل شيء على شيء آخر تبعاً لحالته النفسية, و تتغير أذواقه بتغير خبراته و تجاربه. فمثلاً أنا كنت أحب البطاطا المقلية جداً و لم أكن أحب نكهة الزبدة, لكن الآن انقلب الموضوع اصبحت أحب نكهة الزبدة جداً و علاقتي مع البطاطا المقلية ليس على مايرام.


الرد :

الذوق في اساسه لا يتغير ، الذوق يبحث عن الافضل ، كلما اكتشفه تبناه ، ليس الذوق عشوائيا و مجنونا كما تصوره الفلسفة المادية ، بدليل انه لا يرجع الى الوراء ، الا اذا اكتشف ان في ذلك الوراء شيئا لم يكتشفه من قبل ..

الذوق عام في كل الامور و ليس في البطاطا المقلية .. لماذا سميناه ذوقا و لم نسميه حقيقة عقلية ؟ السبب بكل بساطة : هو ان الانسان غير قادر على تحويل كل شعوره الى منطق عقلي . الذوق يعني شعور الانسان ، والفن مثله تماما ، لماذا سميناه فن الرسم و لم نسمه علم الرسم كما تتمنى ان يكون ؟ نفس السبب : شعور غير قادرين على تأطيره بالعقل ، الشعور اذا هو مصدر العقل وهو اوسع من العقل ، اذا الشعور ليس مجنونا او عشوائيا او متقلبا كما تتصور ، و مرة يحب البطاطا ومرة يحب الزبدة ! انه عقل كامل ، هو اساس العقل ، انه يسير معنا في الحياة ، يبحث ويتذوق ويرمي ، باحثا عن الحالة المثالية ، وهو المسؤول عن الكآبة والقلق اذا نحن اخطأنا الطريق او وقفنا في طريقه .. وليست العقاقير هي التي تحل المشكلة ..      

ياسين :
عن العلم و شجون العلم, كل النظريات السابقة في الفيزياء و الكيمياء هي إما تم نقضها او يتم البحث في الأمر, و أهم أمر تم التخلي عنه هو النتائج الدقيقة دون نسبة خطأ, هذه الدقة المطلقة غير موجودة, حتى في الرياضيات الحديثة تم التخلي عن المطلقات لصالح الاحتمال الأفضل. و سأخبرك كيف تتم وضع الفرضيات العلمية.

الرد :

هذه حيلة من حيل الماديين لكي يميّعوا العلم ، فيذهبون الى اشياء دقيقة جدا لم تتمكن قدراتنا من تحديدها ، ليقولوا : ان العلم ليس دقيقا . وبموجب هذا ، عليكم ان تقبلوا بالفرضيات التي سنقدمها لكم تباعا ، لكي تخدم الالحاد .. لقد ولى زمان العلم الدقيق ذو الادلة القاطعة !! هكذا سيقولون حتى لا نطالبهم بادلة دقيقة .. العلم طائرة يختطفها الملاحدة ..

اذا هذا يفتح الباب لقبول النظريات ، و النظريات كما هو معروف لا تحمل ادلة قاطعة . اذا عليكم ان تقبلوا بنظرية التطور بما انكم قبلتم بنظرية الكم و فلسفة بوبر ..

الناس لا تعرف العلم الا منضبطا ، والا لن تقبله كعلم . لولا الانضباط لما كان العلم علما ولا مرجعا ، والعلم ليس الا دراسة النظام ، والملاحدة يصرون على العشوائية في كل شيء .. و اذا كان العلم غير منضبط فلا قيمة له من الان ، ولن يكون مرجعا وهو غير منضبط ، قد ياتي اناس يستطيعون ان يضبطوا ما تسمونه الانفلاتات .. و حينها سيسمى علما ..

اما فلسفة بوبر التي تعتمد عليها ، فهي مبشرة بعصر تمييع العلم ، حتى تقبل النظريات ذات الهوى والرغبة ، وكلامه مردود عليه .. هو يقول انه لا يوجد اي علم منضبط ، و هذا كلام سخيف : اعد جدول الضرب مليون مرة ولن تجد فيه اي اختلاف .. الملاحدة مستعدون لفعل اي شيء مقابل ان يقبل الالحاد منطقيا ، حتى تمييع العلم ، مثلما ميعوا الاخلاق من قبل والدين قبل ذلك بكثير .. اذا لالحاد عدو للحقيقة ، لأنه عادى الدين والاخلاق والعقل والعلم ، وماذا يبقى بعد هذه الاشياء الا الحيوانية التي يروجون لها الآن !

واذا لم يكن العلم منضبطا فما هو مقياس الانضباط ؟ هل سيكون الالحاد ، وهو غير عقلاني اصلا ؟

من هنا نعرف ان الملحد ليس مفكرا حرا ، لانه مدفوع دفعا الى تبني ايديولوجياته بالترتيب .. و كل ملحد مادي ،  

ياسين :
من خلال التجارب و الأبحاث يتم التوصل إلى فهم دقيق لعدد من جزئيات مسألة ما, و ما يحدث بعد ذلك أنه يتم تجميع هذه الجزئيات لكي تتكون لدينا صورة متكاملة حول المسألة. و هذه الطريقة من تجميع المعلومات الجزئية تسمى فرضية أو نظرية. هذا ما يحدث في الفيزياء و الكيمياء و علم الأحياء, و لكن أيضاً يتم هذا عند كتابة التاريخ و عند تحليل مسرح الجريمة و في الأبحاث الاجتماعية و النفسية.

الرد :

انت حكمت منذ البداية ان تلك الجزئيات صحيحة ، ولكن ربما تكون خاطئة ! وما يبنى على خطأ فمن المؤكد أنه سيكون خاطئ .. 

ياسين :

إذا يا صديقي ما يقوم به علماء الفيزياء يقوم به الأخرون و يحصلون على نتائج لا تقل دقة عن التي يحصل عليها علماء الفيزياء و الكيمياء.

الرد :

لكن المقارنة تثبت العكس .. هل ما حصل عليه علماء الاجتماع بنفس دقة ما وصل اليه علماء الميكانيكا ؟ لا اظنك تقول نعم .. اذا الميكانيكا اكثر علمية .. علماء الميكانيكا لا يتناقضون ، وعلماء الاجتماع يتناقضون ..

ليتهم ينطلقون من جزئيات كما تقول ، انهم ينطلقون من جزئية واحدة يريدون ان يعمموها على كل شيء : الم ينطلق نيتشه من جزئية واحدة و هي ارادة القوة ؟ و بنى عليها كل تفسيره للانسان والمجتمع ؟ الم ينطلق قبله شوبنهاور من جزئية واحدة و هي ارادة الحياة ؟ الم ينطلق فرويد من جزئية واحدة و يعممها على الانسان والمجتمع والاحلام بشكل سخيف ومثير للتقزز و هي اللذة الجنسية فقط ؟ الم ينطلق دوركايم من جزئية واحدة وهي عبادة المجتمع ويعممها على كل السلوك الانساني ؟ الم ينطلق سارتر من جزئية واحدة و هي اثبات الوجود الخاص ؟ الم ينطلق ادلر من جزئية واحدة و هي تحقيق الذات ؟ الم ينطلق ماركس من جزئية واحدة وهي الاقتصاد و وسائل الانتاج ليعممها على سلوك كل الافراد والجماعات بما فيهم الانبياء الذين يريدون السيطرة على وسائل الانتاج ؟

هذا هو الفكر الغربي : فكر يثير الضحك في جزئيته ..

العقلية الغربية لا تبدأ من الكل الى الجزء ، بل على العكس : من الجزء الى الكل ، و هذه هي نقطة ضعفها .. و المعرفة الحقيقية هي التي تبدأ من العام إلى الخاص ..  و ما زال الفكر الغربي يكرر نفس الخطأ إلا ما قل ؛ فهاريس يربط كل سلوك الانسان بالمجتمع ، و كل الاخلاق لاجل ارضاء ذلك المجتمع ، كما فعل دوركايم .. و داوكينز من خلال تخصصه  يربط سلوك الانسان بالحيوان ، و يطالب الناس ان يعترفوا بحيوانيتهم قبل ان يناقشوه ، او حتى ان يسجلوا في موقعه الاليكتروني ..

اين هي الجزئيات ؟ انها جزئية واحدة .. الثقافة الغربية غير صالحة لدراسة الانسان او المجتمع ، صدق او لا تصدق .. المادية و الجزئية لا تستطيع ان تعرف الانسان ذلك الشامل المطلق المختلف عن قوانين المادة ..

و ها انت ذا تنطلق معهم في نفس الجزئية ، من خلال نقاط دقيقة و بالغة التعقيد لم يستطع العلم ان يضبطها لكي تحكموا على العلم كله بانه غير دقيق ولا منضبط .. تبعا لما كان يريده هيوم عندما عاند المنطق بارتباط السبب بالمسبب ..

هؤلاء العلماء الملاحدة خانوا الانسان و خانوا العلم .. لأنهم اصلا دعاة و مبشرين وليسوا علماء حقيقيين .. و اتجهوا الان بدلا من العلم الى وضع نظريات سخيفة تخدم الالحاد و المادية و يطالبون الناس بتصديقها بموجب الثقة باسماؤهم العلمية و جامعاتهم العريقة التي يدرّسون بها .. و التي اخذت الثقة بها من الجيل السابق من العلماء الافذاذ الذين لم تكن تـُعرف و لا توجهاتهم العقدية .. اما هؤلاء فيعرف الحادهم اكثر من اضافاتهم العلمية ان وجدت ..

ياسين :

على فكرة الرياضيات هي أقرب إلى اللغة منها إلى العلم, و كأي لغة تجد فيها قواعد و علوم لهذه اللغة. لذا تجد أن الرياضيات الكلاسيكية تامة لا نقص فيها و لا ارتياب. القطعية هي واحدة من أوهامنا, لا يمكن ان تقطع بأي أمر علمي لأن العلم وصل إلى الحكمة و كأي حكيم يقول لك انا لا أعرف كل شيء, و العلم اصبح الأن يعرف الكثير و يعرف أن هناك الكثير ايضاً لا يعرفه, و هذه الفرضيات هي محاولات لتركيب ما نعرفه. فمثلاً رغم التقدم الكبير في الطب لازال هناك الكثير من الأمور التي لا تعرف عن الأمراض و الأعراض التي تصيب الانسان, لذا توضع فرضيات و يعالج الانسان وفق هذه الفرضيات التي لا تأكيد فيها. و من ناحية اخرى قبل أن يجري الطبيب عملية جراحية يقول للمريض أو اهله أن نسية نجاح العملية هي (س%) أي أن الطبيب الذي اجرى هذه العملية عشرات المرات لا يمكن له ان يجزم قاطعاً أن العملية سوف تنجح او تفشل, و السبب أن هناك عوامل أخرى مجهولة لا يمكن التحكم بها هي التي سوف ترجح الفشل أو النجاح. زمن اليقين العلمي مات و لن يعود إلا بموت العلم نفسه. و ولادة علم جديد يكون ارعن و مغرور.

الرد :

انت الان تبشر بموت العلم اليقيني ، والذي لاجله أخذ العلم احترامه وليس للفرضيات ، اذا : النتيجة هي ان الفكر المادي الالحادي يعادي العلم وينعاه ويريد ان يقبره ، لأنه لم يخدم ايديولوجيته .

العلم اليقيني الذي قلت انه يقيني قديما ، لم يدع المعرفة الكاملة في كل شيء .. نحن امام اشكالية منطقية وليست علمية : هل اذا لم نستطع ان نتيقن من امر تمام اليقين ، نحكم على العلم كله انه غير يقيني ؟ مع ان في العلم نفسه ما هو يقيني ! اذا رسالة العلم هي تحويل غير اليقيني الى يقيني ، وليس الثورة على اليقيني لتحويله الى الغير يقيني !! هذا لا يفعله من يحب العلم بل يفعله من لا يحبه ويتمنى نهايته .. وهذا اكبر دليل ان العلم يقف في وجه المادية من ضمن الاشياء التي وقفت في وجهه كالأخلاق والدين والإنسانية.

على الاقل وللموضوعية ، قولوا ان هناك في العلم امور يقينية وامورا مشكوك فيها ن وامورا كانت مشكوكا فيها وصارت يقينية ، وامورا كانت يقينية وصارت مشكوكا فيها .. وهذه هي حال العلم منذ ان وجد في رحلة بحث عن التأكد و اليقين . وخلاصة كل هذه المحاولات هي الحصيلة اليقينية من العلم ، وهي التي تسمى بالعلم الخالص ، فالمربع له اربعة اضلاع ، والمثلث له ثلاثة اضلاع : هل هذه المعلومات يقينية ام مشكوك فيها ؟  الماء يغلي في درجة الحرارة 100 % : هل صار مشكوكا فيها ايضا ؟ ودرجة حرارة الإنسان 37؟ الكل اكبرمن الجزء : هل تطرق الشك الى هذه ؟ 2×2 = 4 ، هل يستطيع العلم يوما من الايام ان يشكك فيهذه الحقيقة ؟ اذا لماذا تشككون في العلم كله ؟ ما هي المصلحة والدافع لهذا التشكيك العام بالعلم ؟ الدافع بسيط وواضح : ان عندكم باقة من الافكار الغير علمية تريدون ان تدخلوها من باب العلم ، باب العلم اضيق من هذه البضاعة فقررتم ان تكسروا هذا الباب لكي تدخل الشاحنة بكامل حمولتها ! لديكم نظريات لم تستطيعوا اثباتها بالعلم القطعي تخدم المادية والإلحاد، فاضطررتم الى التهجم على العلم القطعي ، معتمدين على الاشياء التي لم يستطع العلم ان يبت فيها حتى الان .

ومثالك بالطبيب ونسبة الخطأ في العملية ، لا يعني تشكيكا في العلم ، لأن الإنسان نفسه وتاثيراته النفسية على المرض غير معروفة اصلا ، فالانسان ليس قطعة مادية ،ولكن : قطعة من الحديد تحمى بدرجة حرارة 2000 ، علميا سوف تنصهر ، من يستطيع ان يشكك في هذه المعلومة ؟ بل ان المشكك فيها سوف يضحك عليه مثل من يشكك في 1+1=2 ، سوف يشك في عقله قبل ان يشك في النتيجة ..

الماديون ابتعدوا عن الموضوعية ، وشككوا في مصداقية العلم كله ، لان بضاعتهم بلا براهين قطعية ، مع العلم انهم تركوا الايمان اصلا بدافع طلب البراهين القطعية !! اي وقعوا فيما حذروا منه ، وهكذا الهوى والشيطان ياخذ اتباعه بالتدريج الى الميتافيزيقا التي ظنوا انهم يتبرأون منها ، اي عودة إلى الميتافيزيقا ولكن من الباب الآخر المعاكس اي ابعدوا عن ميتافيزيقا الله ، فاستدرجوا الى ميتافيزيقا الشيطان ..

نعم الانسان لا يمكن ان يملك المعرفة الكاملة في اي شيء ، لكن بحدود ما اوتي ، فإن عنده معرفة يقينية ومعرفة نظرية ومعرفة ظنية ، ونحن نتحدث عن طاقة الانسان في المعرفة .. وهي طاقة ليست من مجهود الانسان بل هبة من الله ، جعلته يميز القوانين تلقائيا بحدسه ، ثم اخذ يترجم هذا الحدس الى عقل ، وهو ما يسمى بالعلم .     

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق