ياسين :
وقبل أن أترك هذه الفقرة اردت أن أقول اليست الحكمة هي نتيجة العلم و الذكاء و الخبرة, و كلها مكونات مادية يمكن قياسها.
الرد :
هل الحكمة كلها عن الأمور المادية ؟ فهنا لا تكون حكمة لأن الحكمة تعني الإحاطة، والنظرة المادية جزئية ، والمادة كلها جزء أو نصف المعرفة البشرية ، فأنت تتكلم عن العلم ، فمن الذي تعلم وما معنى التعلم ؟؟ فهل هو الدماغ ، فلنحلل الدماغ ونبحث عن العلم في داخله ، إذاً هل الحكمة مادية؟ فأنت لا تعرف مادية الذي عرف المادة ، فكيف تقول عنه مادي لأنه عرف المادة فقط؟ فهل هذا دليلك؟ فهل كلما عرفت شيئاً أصبحت مثله؟؟!
يعني تتذوق طعم العصير وتقول أنه طعمه رائع او حامض ، العصير موجود مادياً ، لكن الذوق نفسه أين هو؟ مع أن اللسان موجود والموصلات موجودة والمخ موجود ، مع العلم أننا نعرف الطعم اكثر من معرفتنا باللسان والموصلات! . وهل أحد غير الإنسان يستطيع ان يثبت للعصير لوناً أو طعما أورائحة ؟ إذاً طعم العصير هل هو في العصير أو في الإنسان؟
إذاً نحن نعرف غير المادي فينا أكثر من معرفة المادي فينا ، وهذا يدل على أننا لسنا ماديين في وجودنا بشكل كامل ، ولما احتجنا لطبيب يخبرنا عن أجسادنا ويبين صفاتها التشريحية التي لا نعرفها!! فالسؤال لماذا نعرف غير المادي أكثر من المادي؟ لماذا نعرف المشاعر أكثر من الأفكار وأوضح؟ لماذا نشك في أفكارنا ومعلوماتنا ولا نشك في مشاعرنا؟ فالغاضب لا يشك أبداً أنه غاضب ، والخائف لا يشك أبداً انه خائف ، لكن نشك أن هذا أطول من هذا ، ونشك أن هذه الفكرة حقيقية أو غير حقيقية ، ونشك في تشخيصنا لأمراضنا ، أليست المعرفة الكاملة هي التي بلا شك ؟ ومعرفتنا الأكيدة صارت في شيء غير مادي ، بينما الأشياء المادية حتى أجسامنا تطرق لها الشك ، فلو كنا ماديين في حقيقة وجودنا لكان الأمر على العكس ، لتأكدنا من المادة وشككنا في غيرها .
لو سألتك من الذي يناقشني الآن؟ ستقول أنا .. فمن أنت ؟ هل أنت أصابعك أم عيونك أم قلبك أم دماغك أم رجلك أم يدك .. فأين الوجود المادي لكلمة (انا) فيك ؟؟ وهل هو انت الآن أم قبل 10 سنوات او عندما كنت طفلاً رغم التغير المادي الكامل؟ وإذا قلت أنها مجموعي ، فهناك من بترت أطرافه ولا يزال يقول (أنا) ، رغم نقص ملايين الخلايا ، فكلمة مجموع تتأثر بالزيادة والنقص ، وأما (أنا) فلا تزيد ولا تنقص ، فالكل يقولها الطفل والكبير والذكر والأنثى في كل اللغات ، بل يقولها النائم ويتعامل مع ماديات وهو نائم ، مع انه لا وجود للمادة وهو مستلق في فراشه .
الأشياء المادية التي نتعامل معها موجودة في ذاكرتنا ، فهل تشغل حيزاً من الفراغ هناك ولها جرم؟ مع أنها هي هي ! ولا يمكن أن يكون الشيء نفسه في مكانين في وقت واحد ، في ذاكرتنا مدناً بكاملها ، فأين وجودها المادي هناك؟ مع أن إدراكنا لها وهي في ذاكرتنا بنفس إدراكنا لها وهي في حيزها المادي . وإذا قلت انها موجودة في خلايا الذاكرة فنقول ان الشخص المثقف أكثر يحتاج خلايا أكثر في دماغه حتى يعبئ ذلك المستودع الصغير بتلك الأشياء الكبيرة لأن لها جرم مادي بناء على نظريتكم!، وهذا غير صحيح.
إذاً كل شيء مادي هو جزر في بحر المتافيزيقيا ، ولم نقصد بها ما بعد الدنيا بل في الدنيا ، فنحن نعيش في الميتافيزيقيا ونتعلمها ، في اللحظة التي تقول فيها : فهمت المسألة ، فما الذي جرى؟ وما هو الفهم؟ فكل شيء ميتافيزيقي ولا وجود مادي إلا للمادة فقط التي تسبح في بحار الميتافيزيقيا مؤذنة بسقوط الفلسفة المادية لأنها تنطلق من الجزء لتحكم على الكل ، والمادة جزء وليست كل، إذاً نحن نفهم بطريقة غير مادية ، فعلينا أن نحترم هذا العالم ولا نكون كالماديين الذي لا يحترمون إلا ذوات الأجرام ، وإذا سألتهم كيف رأيتها؟ تكلم عن العين وعدساتها وشبكيتها ..الخ ، العين وسيلة ، ولكن ما هي الرؤية ؟؟ فهنا خرجنا إلى الميتافيزيقيا ، وهنا يتهرب كالعادة ويذهب ليتكلم عن المخ ومركز الرؤية فيه ، فالرؤية شيء والجهاز البصري (من العين إلى المراكز) شيء آخر ، بدليل أنك تستطيع أن ترى في ذاكرتك وأنت مغمض العينين! ومثل الرؤيا في الأحلام! فأين الجهاز البصري هنا؟!! وكيف تستغرب أن يقولوا بعدها ان للإنسان روح؟ إذاً ما هو الذي يرى فينا وأعيننا مغمضة؟ وأحيانا تمر الأشياء أمام عدسة العين ولا نراها !! إذاً ليست الرؤية تساوي العين ومركز البصر في المخ ، بل حتى ثبت أن مراكز الحواس بينها تواصل بل وتناوب في العمل .
ياسين :
الحديث يطول أكثر من هذا. آخر فكرة هي ان الفكر المادي ليس مؤدلج بل هو اساس للأيدولوجيا, من الفكر المادي خرجت الماركسية و خرجت اللاأدرية, و قد تخرج منها فلسفات أخرى, و لكن كلها تنطلق من المادة و العلم و تبحث بعدها عن تفاسير لكل الظواهر, و وفق هذه التفاسير تضع قوانين. الفكر المادي ليس جامداً بل متغير و متطور و هذا دليل على حياته, بعكس الأفكار التي تجمد مكانها و لا تتطور و تصبح بعد فترة من الزمن متآكلة و هشة قابلة للكسر.
تحياتي
الرد :
الفكر المادي مثل الممثلة التي تظهر في كل مشهد بملابس جديدة وهي شيء واحد حتى تـُقبل، ولو كانت الفلسفة المادية شيئاً ثابتاً لما احتاجت إلى التبدل المسخيّ في كل مرة ، إنها تحاول التجدد لأنها مملة وتحاول كسب رضا الناس ، وكل مرة تفشل وتغير ملابسها .
وشكراً لك شخصياً وليس للفلسفة المادية الإلحادية التي تحاول أن تقضي على إنسانية الإنسان لتحوله إلى سلعة .
(( انتهى الرد الثاني للزميل ياسين ))
************************************************************************************************
(( بداية الرد الثالث للزميل ياسين))
ياسين :
الزميل الوراق:
أعجبتني كلمة تهافت, و ذكرتني بالكتابين الشهيرين (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي ,و كتاب الرد ( تهافت التهافت) للإمام ابن رشد.
قبل أن أبدأ بتهافتي الجديد سأعلق على كلماتك:
مقتبس من الوراق:
الموضوعية تقتضي الدقة عند اكتمال الفكرة ، حتى لو كانت جزئية ، وحتى لو كانت من جملة واحدة .. انت ترد على المقطع ، و انا ارد على الجملة ، إذا انا اكثر موضوعية منك .. ليتك تفعل هكذا معي .. لكن الشيطان في التفاصيل ..
ليس من الضروري أن يكون أسلوبك هو أكثر موضوعية.
في الجدل يكون الهدف ليس الوصول إلى الحقيقة بل الإقناع بأن الطرف الآخر مخطئ و لو لم يكن كذلك.
لذا تستخدم بعض الأساليب و إليك ثلاث منها.
الأسلوب الأول: و أسميه أنا أسلوب اصطياد الخطأ, و هنا يتم البحث عن خطأ ما يرتكبه الطرف الآخر مثل أن يخطئ باسم شخصية ما, أو تاريخ حدث. أو اصطياد جملة أو اقتباس ما و التركيز عليها و الابتعاد عن الفكرة الأساسية.
الهدف من هذا الأسلوب هو التشتيت.
الأسلوب الثاني: و يمكن أن نسميه "أسلوب صناعة الخطأ" و أسميه أنا " الأسلوب الذكي". في هذا الأسلوب يتم تفكيك الكلام و أعادة تجميعه بشكل جديد لكي يبدو كلام الطرف الآخر ركيك و مفكك. و هو يشبه قص الصورة إلى أجزاء ثم إعادة ترتيبها بشكل مختلف.
هذا هو أسلوبك يا صديقي و أحييك عليه.
و هناك شكل أبسط من هذا الأسلوب و هو إجتزاء الكلام من الفكرة و لو كان الجزء هو جملة كاملة. و كمثال يوضح الفكرة, يأخذ الغرب الآية القرآنية (و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون بها عدو الله و عدوكم) كدليل على أن الاسلام هو دين ارهاب. و رغم أن هذه آية قرآنية تشكل جملة و فكرة جزئية كاملة إلا أنها لا تعبر عن رأي الاسلام تجاه العنف, بل هي تتناقض مع فكرة الاسلام.
أما الأسلوب الثالث: هو أسلوب الغبي, و هنا يتم الانتقال من نقاش الفكرة إلى الهجوم الشخصي على الطرف الآخر.
مجمل الكلام, في النقاشات العلمية و الفكرية و السياسية التركيز على الجزئيات غالباً يكون الهدف منه الجدال و الانتصار في هذا الجدال وليس الموضوعية أو الحقيقة.
الرد :
إذا انت تريد ان تهمش التفاصيل مع ان الكل ينبني من التفاصيل ، و صدق من قال : الشيطان في التفاصيل . انت تريد ان تبقى الصورة التي تقدمها على حالها ، دون اعادة ترتيب ، مع ان هذا الترتيب قد يكون هو الحقيقي ، وليس شرطا ان ترتيب الصورة كما تقدمه هو الترتيب السليم ، ثم بعد هذا والاسوا منه لا تريد ولا مناقشة التفاصيل ! اذا كانك تقول : اقبل كل شيء اقوله كما هو جملة وتفصيلا ! فلا تمس الترتيبة التي اقدمها وايضا لا تدخل في تفاصيلها !! اذا كيف يكون الحوار ؟ هذا الاسلوب الذي تتبناه ، اسميه اسلوب الصخرة الملساء المصمتة . اقبلها كما هي او ابتعد عنها . فأجزاءها ممنوعة ، وكتلتها ممنوعة من باب اولى . ولا شك ان هذه الفكرة استعلائية وهي في مضمونها ترفض الحوار جملة و تفصيلا ، وان كانت تقبله بالظاهر ، ما دام يتزحلق على اطرافها ولا يمس داخلها ..
وهذه النظرة للحوار ، اسميها بالنظرة اليمينية ، طريقة الحوار اليميني ، حيث يبدو الاشمئزاز منذ اللحظة التي يمس فيها تركيب الصورة كما يريدون . و يمكن تسميته ايضا بحوار المزاج . او حوار : اتفق معي ثم حاورني . او يسمى : حوار القوة .
و مع احترامي لوجهة نظرك ، انا اعتبر هذا النوع (الحوار اليميني) هو اسوأ انواع الحوار والابعد عن البحث عن الحقيقة ، لانه يرى ان الحقيقة هي ما يقدمه هو ليس الا .. على انها مسلمات ، فالحوار مثلا حول محنة الشعب الفلسطيني و قضية الشرق الاوسط تبدأ عند الغرب اليميني بمسلمات ، و هي حق اسرائيل في البقاء ، الشعب الفلسطيني عربي ، والعرب لهم بلاد كثيرة ، رفض فكرة الارهاب ليدخلوا فيها اي نوع من المقاومة ، الاعتراف بالام اليهود واحراق 6 ملايين في المانيا .. اقبل هذه المسلمات ثم ناقش الغرب اليميني في القضية ، مع ان كل المشاكل في هذه المسلمات الخاطئة .. لكن اي مساس لهذه المسلمات يعتبر الحوار لاغي .
حوار الاقوياء هذا يحول الحوار الى تفاوض ولا يجعله حوارا . عالم الافكار لا معنى للقوة فيه و لا للتفاوض و لا للمجاملات ، فهو ليس مثل عالم الاقتصاد او السياسة .. في عالم الافكار لا توجد مسلمات ، الا ما يتفق عليه الطرفان بموجب العقل المشترك .
نعم لي الحق في تفكيك الصورة واعادة تركيبها ، و لك الحق ايضا في ذلك ، فتفكك الصورة التي ركبتها وتعيد ترتيبها ، و الحوار مستمر دون التعرض لحق اي احد من المتحاورين في ابداء رايه .. تستطيع ان تسمي حواري بالحوار الراديكالي ان شئت ، كل هذا لا يهم ، المهم ألا اقبل مسلمة مفروضة علي دون اقتنع واحس بها انا . هذا هو الحوار الاكثر حرية ..
نعم أنا ارفض طريقة الحوار اليميني .. و كل حر في تفكيره يرفض هذه الطريقة . لانها تحمل املاءات في داخلها ..
حسنا : حواري من النوع المفكك ، وحوارك من النوع اليميني ..
ياسين :مقتبس من الوراق:
مشكلتك هي انك تعتبر ما تم نقاشه أنه قد فـُرِغ منه واصبح معروفا بشكل لا يتطرق اليه الشك .. يا اخي : البلدان مليئة بمرضى الكآبة والوسواس القهري ، و لم اعرف واحدا ممن اعرفهم شخصيا قد شفي من الصعقات الكهربية او المسكنات .. و التي لها اضرار جانبية بدورها تؤدي الى الهزال والرعاش والشحوب ونقص الوزن الحاد .. بمعنى آخر : تزيد الكآبة اكثر .. لأنها تفتر الطاقة ، والسعادة تحتاج إلى طاقة ..
هذا كل ما في الامر : مسكنات ، و في حقيقتها عبارة عن مخدرات مخففة ، تعرفها البشرية منذ اقدم العصور ..
بمعنى آخر : ليست هذه العلاجات علمية .. فهي لا تفعل مثل ما يفعل المضاد الحيوي .. وتاثيرها ليس عاما على كل الحالات حتى تكون علمية .. اذا لا يوجد "علم نفس" بمعنى كلمة علم .. اما كلام ادلر وفرويد ويونغ وغيرهم فكلها اجتهادات سطحية ايضا من وجهة نظري .. الاجتهادات والنظريات ليست علما مثل الرياضيات .. هل علم النفس مثل الرياضيات ؟ طبعا لا . اذا لماذا يسمى علما ؟ المفترض ان يسمى "دراسات و نظريات نفسية" وليس "علم نفس" ..
هنا لا أريد التعليق لكني أريد أن أستوضح منك: ماذا تعني كلمةالطاقة
و أيضاً ما هو تعريفك لكلمة علم و ما هي الشروط الواجب توافرها كي يكون حقلاً بحثياً علماً؟
الرد :
اقصد انها تؤدي الى الخمول وضعف الدوافع ، و هذه من سمات الكآبة ، اي انهم يعالجون الكآبة بزراعة كآبة اصطناعية .. والنتيجة التي يرجونها هي ان تقلّ الانفعالات ونتائجها السلبية كالعنف والازعاج مثلا ، وهي مثل اعطاء الثور الهائج مخدرا لكي تسلم من نتائج ثورته الضارة ..
الحقل البحثي مفتوح ، لكن للعلم شروط ، وهي المنطقية اولا ، ثانيا دقة النتائج و اطرادها في كل تجربة ، وهذا غير متوفر فيما يسمى علم النفس الحالي ، فلا دقة نتائج و مفعول ولا اطراد ولا منطقية يستطيع ان يسير معها المنطق و العقل .. كل اجاباتهم تنتهي بالاحالة على ظواهر غير مفسرة ..
وبما ان كلمة علم مأخوذة من العلم المادي ، اذا لا يمكن ان نحصل على نفس النتائج الدقيقة الا في عالم المادة ، و عالم الانسان والمجتمع ليست المادة التي تحكمه ، بل هو الذي يحكم المادة و يقيمها ، تبعا لحاجاته الشعورية . فكيلوغرام من الذهب لا يساوي كاس ماء بارد عند العطشان ، و مستعد ان يشتري الماء بالذهب اذا لزم الامر .. اذا الانسان هو الذي يعطي المادة القيمة وليس العكس.
هذه المجالات الانسانية يصلح لها كلمة منطق : فمنطق نفسي ، منطق اجتماعي ، ومنطق طفولي ، ومنطق ديني ، ومنطق اخلاقي ، ومنطق جمالي .. لأن كلمة منطق تعني طريقة مثلى ، و بما اننا نتعامل مع بشر ، و البشر في الاساس احرار ، فليس كل الناس يلتزمون بالحقائق المنطقية .. اذا لا يمكن ان نحصل على نتائج منضبطة في عالم الانسان مثلما نحصل عليها في عالم المادة ، لان الانسان له اختيار حر ، والمادة ليس لها اختيار .
كل ما في الامر ان الغرب انبهروا بنتائج العلم المادي في القرن التاسع عشر والثامن عشر ، وارادوا ان يعمموا هذا الشيء على مجال الانسان ليحصلوا على نفس النتائج ، و هذا وهم كبير .. الفلسفة المادية هي ام هذا الوهم الكبير . فهي تريد بالقوة ان تجعل الانسان والمجتع عبارة عن مادة . وهذا ما جعلها متهافتة كما ذكرت لك من قبل .. مع ان الكلمة لم تعجبك فيما يبدو ..
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق