عبادة الذات أو
الدوران حول الذات مرض, والمصاب به تجده لا يحب الثقافة و العلم إلا لمصلحة تتعلق
بذاته, فلا يستطيع أن يهتم بموضوع خارج ذاته بالكلية وإذا تكلمت بموضوع خارج ذاته سيحاول
أن يسحبه شيئا فشيئا إلى ذاته, لذلك كل شيء يحدث يراه من خلال ذاته, والأشياء مهمة
وتافهة وقريبة وبعيدة تبعا لقربها وقيمتها عند ذاته, فالأشياء عنده لا قيمة لها
بذاتها, فحتى أحلامه في المنام يفسرها على أنها شيء سيحدث له في مستقبل ذاته.
الشعور الإنساني يريد
أن ينطلق ويرى الحياة بينما الأنانية تربط كل شيء بالذات وهي التي تنتج ضيق الأفق
وصعوبات التكيف والغيرة و الحسد. لا يستطيع الأناني أو الأنانية أن يفكرا بطريقة
حرة, و لن يستطيع إلا أحد سلم نفسه لله, هو من يستطيع أن يكون حرا من سيطرة ذاته و
أنانيته على أفكاره وتقييماته. طبعا لابد للإنسان أن يهتم بذاته لكن المشكلة في
سيطرتها على النظرة للحق والباطل عند الإنسان, عبادة الذات تجعل الحق ما ينفعنا
والباطل هو ما يضرنا فقط وهذا ليس بالشرط هو الحق والباطل.
عبادة الذات تضيق
إطار الحياة فلا يستطيع المصاب به أن يتذوق الجمال ويستمتع بالحياة, و إذا وصفها
بالتعاسة فلأنها تعاكس سير متعته الذاتية حتى لو أسعدت غيره, مثلما عبر الجاحظ عن
نكد الحياة حين قال أن الذباب لا يقع إلا على الكوب الذي تشرب منه, ولا يقع إلا في
جانبه الذي تشرب منه, وإذا وقع في المشروب وأردت تسكبه يتجه إلى الجانب الأبعد من
الكوب! حتى تريق أكثر ما في الكوب مقابل أن يخرج! ليأتي ذباب آخر! وبسبب ضيق إطار
الحياة عندهم تلاحظهم يجسدون المتعة بشيء أو شيئين أو ثلاث وهذا يدل على ندرتها
عندهم, فتجد ملحد مثلا يرى المتعة كلها بالخمر والجنس فقط, والإلحاد مبني أصلا على
عبادة الذات لأنه لا يعترف بخير مطلق ولا شر مطلق فقط بالنسبة للذات, وكثير من
أتباع الأديان أيضا مصابين بالدوران على الذات حتى لا نقول عبادة الذات دون الله
أو أنها خاصة بالملحدين فقط, قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}. الدين يدعو
لكبح الأنانية من خلال دعوته للتضحية و الإيثار والصبر لأجل الفضيلة, وهذا ما لا
يملكه الإلحاد.
كل شيء في
الطبيعة فيه جمال, حتى الذباب تستطيع أن تراه شيء ممتعا بدلا مما هو مزعج, مثلما
قال عنترة يصف الذباب وقت الربيع:
" وَخَلَى الذُّبَابُ بِهَا
فَلَيسَ بِبَـارِحٍ = غَرِداً كَفِعْل الشَّاربِ المُتَرَنّـمِ
هَزِجـاً يَحُـكُّ
ذِراعَهُ بذِراعِـه = قَدْحَ
المُكَبِّ على الزِّنَادِ الأَجْـذَمِ "
فالذباب يحك ذراعه بذراعه مثل شخص مصاب بالجذام
ويريد أن يشعل الزناد ولا يستطيع أن يمسك بكفيه.
و يلاحظ على مرضى
محورية الذات أن كلامهم ممل, لأنك تعرف ماذا سيقولون وأنه سيكون في الأخير هو
البطل فلا جديد عندهم, الملحد مثلا لن يتكلم إلا عن مواضيع محددة فمثلا سيتكلم عن
جاليليو واكتشاف دوران الأرض, من خلق الله, والدين سبب الصراع, العلم يعارض الدين,
الإنسان ليس في أحسن تقويم, والمرأة..إلخ, فتستطيع أن تجمع المحاور التي لن يخرج
عنها, وفي أي قضية تستطيع أن تعرف كيف سيتناولها, والسبب أنه دائم التمحور حول
ذاته ولا يخرج منها, والذات عندهم تعني اللذات واللذات حسية واللذات الحسية
محدودة, وبالتالي يصبح الشخص محدودا ضيق الأفق.
ومن صفات مرضى
التمحور الذات أنهم لا يملون من إعادة نفس الموضوعات لأن لها علاقة بالذات, فهم لا
يرون الدنيا واسعة بل ضيقة لأنها مربوطة بالذات, فهم يرون وكأنها الدنيا مثلث رأسه
مرتكز في ذواتهم. قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} فهم يعانون من
الضيق, و حتى العوام منهم تجدهم مملين في الغالب, فلو تجلس مع أحدهم عدة مرات تجده
يبدأ يكرر نفسه.
أصحاب الأهواء
المتعارضة لا يلتقون أبدا, ولا يفيدهم الحوار إلا ربما في إيجاد نقاط مصالح
مشتركة, لهذا لا يؤمنون بالتبعية والخضوع.
عبادة الذات أم
الغباء, فعبد ذاته دائما غبي, وهي تعني عبادة الشهوات والشهوات دائمة قليلة, أما
من اختار طريق الله والطبيعة والفضيلة فالحياة كلها مفتوحة أمامه ولا يُحرَم من
الشهوات, لكن ليس على حساب الفضائل.
لا يوجد أحد يحب
المعرفة حقيقةً إلا وفيه خير, فمن فيه خير تجده ينسى نفسه ويتأمل حيوان مثلا
وجماله وكيف يتحرك, فكون الشخص خرج من ذاته إلى شيء ليس له مصلحة فيه هذه علامة
خير بحد ذاتها, وإذا كان يستطيع أن يحس بمعاناة غيره حقيقةً فهذه علامة خير أيضا.
من ينسى نفسه حين يخرج لمكان جميل لكن فيه عيوب كالحشرات أو البرد أو الغبار أو
المطر تجده يستطيع أن يستمتع بالجوانب الجميلة فيه, بينما عبد ذاته لا يستطيع إذا
تأذت ذاته. من فيه خير تجده يحب أن يتعلم من أجل ينفع غيره, بينما عبد ذاته لا
يتعلم شيئا إلا ما له علاقة بحياته فقط, وهذا ما يجعله جاهل.
الخروج عن الذات ينتج
حكمة, والتمحور عليها ينتج الجهل, و الحكمة هي المطلوبة وليست المعلومات, وأي
معلومات الدافع لها الأنانية ليس لها قيمة ولا تفيد إلا فيما استُعمِلت له. من
يخرج من ذاته هو من يرى الحق وهو من يرى الخير وهو من يرى الجمال ويرى الحقيقة
ويعرف الله. لهذا يعجبنا الشاعر والفنان الذي يصف الطبيعة وينسى نفسه مثلما نرى في
الشعر الجاهلي و اللوحات البرناسية أكثر من الشاعر يتكلم عن نفسه ومعاناته وأنه لم
ينم ليلتين من شدة حبه دون أن يتناول بنادول و أنه لم يأكل...إلخ, بل ربما أفضل من
الشاعر الرومانسي الذي يسبع مشاعره على الطبيعة وكأنه الطبيعة هو, فإذا كان كئيبا صار
المطر يبكي والشعاب تنشج.., وإذا كان سعيدا صارت الزهور تضحك من هزيج السحاب.
أفضل شيء تعمله
لذاتك أن تنساها وتسلمها للشعور والحق والواجب, وهذا ما يلخصه فكرة العبودية لله,
سلم نفسك لله تتفتح لك أبواب الدنيا والآخرة, قال سبحانه: {ومن يتق الله يجعل له
مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}, فالنفس التي يبنيها الشعور هي السعيدة لأن السعادة
من الشعور الفطري الباحث عن الفضيلة وعن الله.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق