أحيانا تكون سارح
الفكر في حالة استرخاء وأنت جالس بقرب النار ويراك الآخر كأنك تحدق في النار, وأنت
في الحقيقة لا تحدق في النار بل تكون عينك على شيء بجانبها والنار تكون كأنها
خلفية أو تحدق في النار ولكنك تفكر في شيء آخر , مثل أناس في مقهى يتحدثون ووراءهم
خلفية موسيقية , ونفس الشيء لمن يحدق في النار.. هذا أحسن من يضع أذنه على المذياع
ويتسمَّع؛ بسبب التركيز المحرق الذي ينتج الملل , حتى بعض الأغاني أو الكلمات أو
العبارات أحيانا تتردد في آذاننا فتثير القرف ليس الملل ونحاول أن ننساها فتعود ,
وهذه العبارات يأتي بها الشيطان كي يلهيك عن ذكر الله , ولاحظ أنه لا يختار عبارات
فيها ذكر الله , وأحيانا تكون على شكل كلمات غريبة بعض الشيء.
كذلك المرأة لا
تركز عليها في الحب وعلى جمالها فإذا ركزت الحب كله لها فإنها ستحترق لأن الحب
أساسا لله والعكس صحيح. والدنيا كلها صالحة لأن تكون خلفية وخط ثان وليست محور
التركيز, وهذا يدل على أننا خُلقنا للآخرة وليس للدنيا (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر
همنا), ولو كنا مخلوقين للدنيا لم يوجد الملل الذي يلاحق كل شيء فيها , أي اجعل
الدنيا آخرة والآخرة دنيا أي اجعل الآخرة قريبة والدنيا بعيدة مصداقا لقوله تعالى
:{وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} فأي شيء في الدنيا
حلاوته أن يكون خلفية لأنه لا يوجد شيء يحتمل التركيز الكامل, (اجعلني خلفية جميلة
في حياتك أو رسمة جميلة فوقها قصيدتك حتى لو كانت عني), لو قالت المرأة هذا سيكون
وضعها سليم لكن المشكلة أن أغلبهن يقلن : اجعلني نصب عينيك! وهذا ما ينفّر الرجل
من المرأة والمرأة من الرجل. والدليل أن الشيء الذي تركز عليه يحترق هو أنك إذا
ركزت على كتاب وقرأته أو شاهدت فلم لا تستطيع أن ترجع إليه إلا بصعوبة لأنك ركزت
عليه و انتهيت, فهل المرأة تريد ان تكون فلما يشاهد لمرة واحدة أم أن تصاحب الرجل
طوال العمر؟ أجمل الأشياء تكون وهي ليست في الصدارة, لو ذهبت لكي تتأمل الوردة فقط
وتركز عليها ستكون كأنك في رحلة علمية للدراسة وليس لتذوق جمالها .. فحبيبك من
يكون بجانبك وليس بمواجهتك.
دائما الخلفية يتضح
جمالها أكثر من عيوبها لأن الشعور إيجابي, فإذا سمعت موسيقى غير واضحة المعالم
ستكون أجمل من الموسيقى واضحة المعالم (قانون), هذا هو الجمال الهادئ أو نسميه
الجمال المتواضع, الجمال الذي لا يحب الأضواء.. الغابة غير المقصودة أجمل من
الغابة المقصودة والتي لم تنوي الذهاب إليها. التركيز مرة واحدة فقط وهذا من
قوانين الشعور, فلا تستطيع تصرف تركيزات على هواك, وإذا ابتسرت التركيز مرة ثانية
سيكون أقل من المرة الأولى فالشعور يرفض التركيز مرة أخرى, إلا إن كان يرى نفس
الشيء بشكل جديد.
وهذا من الخيوط
الدالة على عبودية الله, فلا يوجد شيء يحتمل ويستحق التركيز الدائم في الدنيا, لا
شيء يستوعب العبودية والمحبة الكاملة إلا الله؛ لأن الله هو الصمد, فأينما تذهب
تخرج له, وترتاح إذا انتهيت إليه ولا تمل, فالله تجده في كل شيء وبالتالي لا ملل
هنا, الله سبحانه يقول : {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} , وأما من
يضع الاتصال مع الله بشكل السبحة أو طقس معين فهذا تضييق, والله الواسع: {وأينما
تولوا فثم وجه الله}, لكن لا يوجد شيء أينما تولي فثم وجهه, لذلك لا شيء يستحق أن
نوليه وجوهنا بالكامل.
المرأة التي تقول:
"لا تفكر إلا فيني ولا تنشغل عني بشيء" - وهي غير التي تقول: "لا
تنشغل بدوني" - إذا كانت تلك المرأة تستوعب أن تكون الحياة بكاملها فلا مشكلة
لكنها لا تستوعب, والله هو الذي يستوعب الحياة الدنيا والآخرة , ومن هنا المتكبر
سيعاقَب لأنه سيأخذ شيء لله وليس له, فإذا تأملت القمر ذكرت الله وإذا عدلت بين
شخصين ذكرت الله إذا رأيت مخلوقات غريبة ذكرت الله وإذا تعلمت شيء ذكرت الله...
فكل شيء يؤدي بك لله, ومن هنا نفهم خطأ الفكرة العلمانية التي تقول الله في
الكنيسة أو في المسجد, أو مقولة (ساعة لربك وساعة لقلبك). هذه الارتباطات التي
تؤدي بك إلى الله لا تُحدث مللا بل سعادة لأنها تحدث ترابطا.
الأيديولوجيات
البشرية لا تستطيع أن تستوعب الحياة ولا الإنسان , فلو كنت شيوعيا ستقول لك
الأيديولوجية أين الشيوعية في إبداعك وفي شعرك وفي كلامك وفي علاقاتك, وكأنها تريد
أن تكون إلها.. ومن هنا يُـكره الأدب الوظيفي الموجَّه لأنه سيحجر واسعا, لأنه
سيأتي بك من أماكن بعيدة عن هذا الفكر إليه بالإجبار, فلو تتكلم بالنكت سيؤدي بك
إلى الأيديولوجية أو حتى في الماكينات سيؤدي بك إلى الأيديولوجية ..إلخ. لا يوجد
أيديولوجية تحتمل الإنسان, والفكر الليبرالي والبراجماتي يحصر الإنسان في المتع
والمصالح وهي لا تصلح لأن تكون صمدا فالإنسان أوسع من مصالحه المادية لأنه مادة
وروح, وهذا ما يجعله يكره ويمل من نفسه وأفكاره .
مشكلة الاستيعابية
تعاني منها كل المناهج ومن بينها الليبرالية التي تدعي أنها واسعة مع أنها ضيقة.
مشكلة الاستيعابية تقف جنبا إلى جنب مع مشكلة جدوى الوجود وهي من المشاكل التي
يعاني منها الشخص الدنيوي, أن أفكاره لا تستوعبه ولا تستوعب الحياة, فيمل كثيرا..
والسؤال : ما الذي يستطيع أن يستوعب الإنسان ويمتلك مشاعره على طول الخط دون ملل ؟
الأيديولوجيات
البشرية لا تستوعب الحياة, والإيمان بالله لا تستوعـبـه الحياة, الحياة أكبر من
الأيديولوجيات وأصغر من الإيمان بالله. الأيديولوجية هي تقابلك بالحياة وتفرض نفسها
عليك ولست أنت من اهتديت إليها, لكن الإيمان بالله تهتدي إليه أينما تذهب ولا يفرض
نفسه عليك, والإنسان لا يرتاح من مقابلة الأيديولوجية فأي ضيف لا يرحَّب به وهو قد
فرض نفسه لكن لو دعيته برغبة فسترتاح له. ظهور الأيديولوجية يشبه حين يجتمع مجموعة
من الناس على الشاطئ ليستمتعوا بالمكان فيظهر لهم من يخبرهم بقوانين وأنظمة لم
يعرفوها تقول أن الجلوس في هذا المكان ممنوع أو أن هناك قيود وممنوعات للجلوس في
هذا المكان.. لو كان معك صديق ليبرالي رأسمالي براجماتي يذكرك في كل لحظة أنك
براجماتي وألا تنس مصلحتك, وأنك ملحد فلا تشطح عن المختبر, أو نظرة فرويد الجنسية
الذي كلما أردت أن تفعل شيئا قال أنت تفعله بدافع الجنس, ستشعر مع هؤلاء بالتقييد
وأنك أوسع من هذا. لكن لو تتكلم بالموسيقى وجمالها تقول سبحان الله, لو تتكلم عن
الماضي وتبدل الدنيا ثم تقول يا سبحان الله, تتكلم عن العلم وتقول ياسبحان الله,
فكأنها الخاتمة الجميلة.. فالله هو الصمد الذي يجمع أشتاتك, كحزمة جميلة مترابطة
لا نشازات فيها, ومن يسمون أنفسهم ليبراليين هم ليسوا أحرار بل يجب أن يتبرمجوا,
فليست نوازعهم كلها مصالح و شر كما تقول أيديولوجيتهم, وهذه مشكلتهم أنهم لم يفهموا
الإنسان. وهذه الأيديولوجيات كلها اجتماعية وردود أفعال لظروف سياسية أو اقتصادية,
والإنسان ليس اقتصاد ومادة فقط. إذن لا يوجد صمد إلا الله, حتى لو كنت كافرا
وملحدا لا يوجد صمد ترتاح له إلا الله, {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. بذكر
العدمية لا تطمئن النفوس ولا الرأسمالية ولا القوة كما يقول نيتشه, فالقوة لا تعرف
ماهي ولا تدري ما تعريفها ولا تدوم , وكم من شخص رأى في سلاحه قوّتَه وقتله سلاحه.
كل شيء هو خلفية
للصمد سبحانه, وشعورك مركز على الله فأينما تذهب تجده.. هذه هي العبودية لله ,
فالله هو الشيء الوحيد الذي كلما يتكرر كلما تسعد وتطمئن أكثر بينما غيره يشعرك
بالملل (قانون), والكلام هنا عن الإنسان وهو بوضعه الحر لا أن يأتي أحد ويجبره على
ذكر الله, فالأغنية أنت من تسمعها بنفسك وأنت إذا مللت منها تركتها. الشيء إذا
ارتبط بالله لا يشعرك بالملل لذلك شخص مرتبط معك بنفس التفكير لا يكون مملا, لأنه
سائر معك وليس متوقفا ولو كان متوقفا لأصبح مملا لأنه بدأ يعيد نفسه, لهذا لا يوجد
حب ولا أخوة ولا صداقة إلا في الله وهي التي تستمر, الآخر إذا لم يكن في نفس
الطريق فهو متوقف في طريقك وأنت تسحبه معك أو يسحبك معه , والصديق الذي لا يمشي
معك سيسقط ولن يستمر, فالحياة مسِيرة ومن لا يمشي تتركه القافلة.. والشعورات تعرف
من هو يسير ومن هو متوقف, فإذا رفض الصديق صديقه أو الزوجة زوجها فهو متوقف,
والكلام على الرفض من الشعور, {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}.
التركيز المستمر
على شيء ما يخرّب جماله ويجعله صمدا وهو ليس بصمد.. ولاحظ كلمة صمد تشير إلى
الصمود أي لا شيء يصمد على طول ويقدم للشعور الإنساني ما يريد إلا الله وذكره ,
فالجمال الأدنى وسيلة ليدل على الجمال الأكبر فلا يجب الوقوف على العلامة على
الطريق.. لهذا إذا استمعت إلى أغنية جديدة أو أنشودة أو قصيدة أو قصة أو رواية أو
حيوان يعجبك أو أي شيء تمل منه ولا ترى جماله لأنك تركز عليه وتعيده أكثر من مرة
أي تحرقه, مثلما يمَل الطفل من لعبته لأنه يركز عليها باهتمامه.
وكون أي شيء لا
يصمد وأي شيء له عمر افتراضي عند شعورك ثم يسقط , هذا دليل على الصمد, فلو تعمل
بالوظيفة التي تتمناها ستمل منها والسيارة التي تتمناها إذا حصلت عليها ستمل
منها..
أي خداع
للشعور عقوبته مضاعفة (قانون), فلو اجتمع أناس على باطل ووضعوا له أنوار وبهرجة
لتزيينه فسيكرهه الشعور أكثر لأنها محاولة خداع , وكذلك من يحاول أن يقبح لشعورك
شيئا ليس قبيحا. والمنافقين والمطبلين هم كريهون لأنهم يخدعون الشعور. الناس
يتهاونون بقضية الجمال والقبح ولا يعلمون أنها خطيرة, ومن يحاول أن يجمل لك شيء أو
يقبحه وهو ليس كذلك فهو ليس أهل للثقة بالنسبة للشعور, فمن يتلاعب بموضوع الجمال
لا يصدَّق أبدا, ومن يفقد المصداقية عند الشعور لا ترجع له, والشعورات ترى الشخص
الذي يكذب على الشعور ويقول أن الشيء جميل وليس جميل أنه شخص خبيث, ومن يحاول أن
يكذب عن طريق المعلومات فله نسبة من الاحترام, مثل شخص يقول أنا ملحد لعدم كفاية
الأدلة ليس قبيحا مثل من يقول أن الإلحاد جميل, فأكذب كذاب هو من يزين لك شيئا
رأيت قبحه, ولو لم تره لربما شككت قليلا. الحكاية كلها حكاية شعور, حتى المغني
الذي يظهر نغمة حزن على شيء ليس حزينا فإنه يُكره, وكذلك من يضحك في أماكن ليست في
موضعها.
الشعور في صراع مع
الملل فالحياة هي عبارة عن صراع مع الملل من أجل الوصول إلى الصمد سبحانه, ولذلك
فإن جمع الأعمال الكاملة لأديب مثلاً تكرهه الشعورات لأنه سيوضع في هذه الأعمال
الغث والسمين, فهناك قوة تحرق الجمال وتحرق الفن لأن الجمال ليس علفا أو شعير أو
تركيز أو حشو, فلا تجعل الجمال في الصدارة لأنك لن تجده , فلا تقول : أنا عاشق
الجمال , أنا شاعر المرأة... وأي أحد يركز على أحد فإنه يكرّه الناس به وهو لا
يدري لأنه يحرقه , إذا بحثت عن مكمن جمال الزهرة مزقتها , فعندما يقول أحد : نريد
أن نستمتع بهذا الشيء, فإنه يكرِّهك به و تجد أن المتعة لم تأتي على القدر المتوقع
والسبب هو مشكلة الصمدية , فأي شيء يُصمَّد غير الله فإنه سيُكره (قانون) , ولو
أُتي أليك بفنان يعرض عليك يومياً فستكرهه..
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق