الخميس، 7 أغسطس 2014

الجمال في الشعر والفن, وعجز الفلسفة المادية عن تفسيره .




يؤمن الماديون أن الإحساس بالجمال ليس أمرا معنويا بل مادي ويمكن تفسيره بشكل مادي بل ورياضي, فما الشعر العامودي مثلا إلا انضباط في توزيع الحركات والسكنات في بيت الشعر, وتغير الحركات والسكنات هو ما يغير موسيقى البيت الشعري. واللوحات الفنية لها ضوابط في الأطوال والأبعاد والمساحات اللونية ومن تلك الضوابط يأتي الجمال, الجمال والفن عندهم ليس إلا ظاهرة مادية. لكن على هذا فالهندسة هي الفن ، علينا ان نلغي الفن إذن ! فالهندسة منضبطة جداً اكثر من يد الرسام ! وربما لهذا السبب وُجِدت المدرسة التكعيبية القبيحة الغير جميلة ، والتي يروج لها الماديون .. لكنها فشلت، وبقيت اللوحات القديمة ما قبل المادية التي تحاكي شعور الانسان هي الاجمل وهي الاثمن وهي التي تأخذ بالألباب على مر العصور .. 

وإذن أي سكنات و حركات تساوي شعراً من وجهة النظر المادية .. إذا لم تكن هذه هي السطحية فماذا عساها تكون ؟ ماذا عسى الشعراء أن يقولوا عن هذا الكلام ؟

الشعر امتزاج بين الشكل و المضمون .. الأساس في الجمال هو الاتساق ، وعلى قدر ما يكون التناغم وعدم النشاز يكون الجمال .. وعلى قدر الاشياء المتناسقة يكون الجمال .. بما فيها القيم العليا عند الانسان ، و الا فلن يكون فنا ولا ادبا ذا قيمة خالدة .. وهي التي تعطي الشعر قيمته اصلاً وليست الحركات والسكنات ، فما هي الا مساعدات .. انظم قصيدة تمجد بها المادة ، واملأها بالمحسنات البديعية والسجع والجناس ، و فرغها من القيم الانسانية ، و انظر هل يقبلها الناس ام يضحكون عليها ، رغم اوزانها وتفاعيلها ..

اكتب قصيدة في وصف الاجهزة الكهربائية و كيفية عملها و مكوناتها و فوائدها ، بأفضل الاوزان الموسيقية ، واستقبل ضحكات الناس وتعليقاتهم على هذا الشعر الذي سيقولون عنه انه سخيف ، لأنه شعر مادي يهتم بالمادة ، و هم يقولون ان المادة اهم شيء ، بل حتى هم لن يعجبوا به ! ولو اطلعنا على محفوظاتهم الشعرية لوجدناها تدور حول الانسان و قيمه العليا ، وليست تدور حول كيف يعمل المصنع ، او كيف تعمل شريحة الهاتف الجوال ..

مثل هذه الاشعار تنظم للاطفال على الطريقة التعليمية في وصف السيارة ، وفي وصف الثلاجة او الطائرة والقطار ، لزيادة محصولهم اللغوي ..

انظم قصيدة عن الفضيلة والقيم العليا ، ستجد الاحترام و ربما البكاء ، الناس يعرفون شكسبير اكثر من مخترع الكمبيوتر الذي تكتب عليه .. شكسبير شاعر انساني قدم معنويات ، و صاحب الكمبيوتر قدم ماديات.. ماذا نفعل بالناس؟ أتعبوا الماديين ، إنهم يحفظون أسماء رجال دين ومصلحين وكتبا مقدسة وفرسان وشعراء ، وفنانين ورسامين اكثر مما يحفظون اسماء مخترعين ومهندسين ، و في هذا العصر ايضا ، عصر التكنولوجيا والعلم ! ماذا نفعل بهم ؟ هل تراهم مذنبون ؟ مشكلتهم انهم من ضمن المنظومة الانسانية ، والانسان هو الاثمن على وجه الارض و ليست المادة .. حاول ان تصرف انتباه الناس عن مشاهدة منظر الغروب على الشاطئ الى مشاهدة قمر صناعي صنعته احدى الشركات الراسمالية .. سوف يبتسمون بسخرية ويستغرقون في تاملهم الساحر الحالم الازلي ..

الانسان اكبر من تصورات الماديين ، لم يستطيعوا ان يدخلوا الانسان في كيس الحواة الذي يحملونه ..   
الانسان هو الاساس وليست الاشكال والحركات والسكنات .. المادة خادم للانسان وليس العكس ..

الشعر ليس الفاظا، والا لكان الكمبيوتر افضل شاعر ..  الشعر صعب وطويل سلمه .. اذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه .. زلت به الى الحظيظ قدمه .. يريد ان يعربه فيعجمه ..

بل ان وصف الماديات لا قيمة له بحد ذاته الا بارتباطه بالقيم العليا بالانسان ، مثل وصف الناقة والحصان والسيف ، لأن لها علاقة بالمثل العليا ، فتأخذ قيمتها منه .. لكن لو ان هذا الشاعر تردى ووصف ادوات المطبخ دون ان يربطها بالكرم ، لاصبحت قصيدته اضحوكة ، وتصنف من الشعر الفكاهي مثل من يصف عنزة ، او يصف سيارته من باب المنلوج الضاحك ليس الا .. و هكذا هي المادية كما يصورها الشعر ، وهو دليل يجب اخذه بالاعتبار .. بل لا يوجد شيء اهان النظرة المادية مثل الشعر ..

اذن الشعر المادي شعر فكاهي ، هكذا هو في كل الاداب العالمية ، والشعر هو صدى البشرية .. لاحظ وصف السيف متعلق بالشجاعة والنجدة والمروءة ، وكذلك وصف الجمل والحصان بربطه بالشجاعة والجسارة والصبر والتحمل والسفر .. لكن لو وصف خزان الماء او اناء الوضوء دون ربطه بقيم عليا ، سوف يكون شعرا فكاهيا سخيفا ..

و لاحظ الحيوانات التي توصف كثيرا في الشعر ، تجد علاقة بينها وبين مثاليات انسانية ، كشجاعة الاسد او النمر او الذئب ، و وفاء الكلب ، وشموخ الصقر ، و وداعة الحمام وجمال هديلها الذي دائما يشبّه بفراق المحبين ، إلخ .. لكن قلما وصف الشعراء حيوانا كالفأر او الصراصير لبعد العلاقة بينها وبين قيم الانسان ومثله العليا .. 

قال ابن الرومي :

ويلاه ان نظرت وان هي اعرضت .. وقع السهام ونزعهن اليم ..

هذا المشهد المادي يشبهه الشاعر بحالة شعوره في حالة اقبال المحبوب و اعراضه .. لأن الشعور غير مادي ..

وللمتنبي :

فصرت اذا اصابتني سهام .. تكسرت النصال على النصال ..

يصف كثرة المصائب والهموم على قلبه .. و هي امور غير مادية ، والا لما استعان بالمادة لتوضيحها .. ولأجل هذا اخذت المادة قيمتها في الشعر ، و ليس لها اي قيمة بدون شعور الانسان .. حتى لو كان نظما موزونا و مقفى .. ومطابقا للعروض ..

وهذا ما يفسر لنا ما اسماه نقاد الشعر بالكلمات الشعرية و الكلمات غير الشعرية ، الغير شعرية مثل كلمة البصل ، ولذلك عابوا على بشار قوله :

انما عظم سليمى حبتي .. قصب السكر لا عظم الجمل ..
واذا ادنيت منها بصلا .. غلب المسك على ريح البصل ..

فهم عابوا عليه عظم الجمل و البصل .. ولكنهم لم يفسروا السبب ، و السبب هو ما ذكرته اعلاه من موضوع الارتباط بالقيم الانسانية العليا .. بمعنى لو استطاع الشاعر ان يربط البصل بقيم عليا ، لاصبحت كلمة شعرية ..

وكان العقاد و المازني ثائرين على مبدأ الكلمات الغير شعرية ، متاثرين بالنقد الغربي المتاثر بالمادية ، من خلال الفترة الواقعية .. وقالوا يجب ان يكون الشعر مرآة لحياتنا ، وحياتنا فيها الغسال والفوال والخباز ، فلماذا ينأى عنها الشعر و هي من حياتنا ؟ و نظم العقاد 11 ديوانا من الشعر ، تعج بمثل هذه الاشياء ، لكن لم يشتهر منها ولا ديوانا واحدا ..

المادة خادمة للشعر ، لأنه من خلالها وصّل الشاعر مشاعره ، وهذا دليل على ان المشاعر ليست مادية .. والشاعر لا يصف حياته اليومية ، بل يصف حياته الشعورية .. والشعر سمي شعرا من الشعور ، و ليس من الوزن الموسيقي كما تخيل الماديون .. 



ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق