اذا اتفقنا ان النية حقيقة و موجودة عند كل انسان - ولا اظن احدا سينفي وجودها ، لانه لا يوجد سلوك بدون دافع - ، اذن سنتفق بأن الخير و الشر موجودان عند كل انسان .
النية جو حر بالكامل (في ظل الثنائية) ، تستطيع لذلك
ان تنوي الشر ولا احد يدري بنيتك ، و قد تنوي الخير ولا احد يصدّق انك نويت الخير
.
و زعم ان النية لا يمكن ان تعرف أبداً ، من الواضح
انه زعم ليس بدقيق ، فما لا يُعرف كله لا يُجهل كله ، لان النية مرتبطة بالسلوك ،
فبالتالي من الممكن التثبت منها من خلال الافكار و السلوك ، لأننا نتعامل مع من
حولنا بموجب نياتهم و سلوكهم ، ولذلك نثق بهم او لا نثق بهم ..
الفعل بحد ذاته لا يدل بالضرورة على الخير او الشر ،
فقد يكون حقا يـُراد به باطل . اذن نفي معرفة النية قطعيا هو امر منافي للواقع
اصلا . كيف سنفهم الاخرين بدون ان يكون لدينا تصوّر عن نياتهم ؟ وعلى اي اساس نفضّل
فلان وننفر من فلان ؟ فأنت تنفر من شخص وتقول ان اسلوبه فظ ، بينما تجد نفسك تحب
شخصا اخر يتمتع بنفس صفة الفظاظة ! و تنفر من شخص لانه كما قد تقول انه جاهل و غير
متعلم ، و تكتشف انك تحب شخصا اقل تعليما منه !
و تقول انك تكره الاشخاص قليلي الكلام ، لتكتشف انك
تحب شخصا قليل الكلام ! فأي نفور حقيقي أو انجذاب حقيقي لا ياتي الا من بعد معرفة
نية الاختيار هل هي للخير ام للشر .. و لو عرفت ان الشخص مختار الخير لك ، لكنه
يتعامل بالشر مع غيرك ، ما موقفك منه ؟ هل تحبه ام تخاف منه ؟ هذا سيقط فكرة ان
الخير هو المصلحة .. فأنت نفرت منه لأنه لم يحب الخير المطلق ، مع انه اختار
المصلحة معك و لك .
مثلا : انت لا تحب و تنفر من الرياضة ، و ياتيك نفور
من شخص يتكلم كثيرا عن المباريات ، هذا النفور لا نسميه حقيقيا ، فقد يتضح لك منه
سلوكات تكشف نية طيبة عنده . وتجد نفسك تتقبله رغم ذلك السلوك الذي لم يعجبك ، لان
هذا فرعي ، و النيات الاعمق منها اعجبتك ، كأن تجد نفسك تتفق معه على الاهتمامات
الانسانية ، و تختلف معه على الاهتمامات الرياضية . فاتفاقكما اعمق من اختلافكما
.. والعكس يكون ، فتجد شخص يتفق معك في الرياضة ، لكنه لا يتفق معك في الاهتمامات
الانسانية ، و النتيجة : نفور حقيقي بالرغم من التقارب السطحي ..
اذن في العلاقات ، هناك نفور و تجاذب عميقان ، و نفور
وتجاذب سطحيان . والخير ليس هو المصلحة ، فكلاهما من عالم مختلف .
إن اي سلوك يظهر ، يسحب معه نيته . لكن النيات التي
لم ترتبط بسلوك ، لا يمكن ان نعرفها . و السلوك الذي لم تتضح نيته لا تفهمه . فحتى
نقيـّم سوف نحتاج الى معرفة شيئين ، هما السلوك و النية ، والا فلا حـُكم على
الشخص .
كلما تكثر السلوكيات عند شخص ، تكون معرفة نياته اسهل
. شخص يمشي صامتا في الشارع ، ما نيته ؟ الله اعلم .. فنحن ليس لنا الا الظاهر ،
اي نعرف الدوافع من خلال الظواهر ، و كلما زادت دراستنا للظواهر زادت معرفتنا
بالشخص . و هذه المعرفة لا تكون الا بربطها بالخير المطلق او الشر المطلق . لأننا
لا نستطيع ان نصف شخصا بالخيرية و نحبه لأنه ينفعنا ، بينما نجده يظلم الضعفاء و يقسو
عليهم .. اذن نحن نقيّم الآخرين من خلال ربطهم بالخير المطلق او الشر المطلق وليس
من خلال علاقتهم بمصالحنا .
من لا يريد ان تـُعرف نياته ، عليه الا يمارس اي سلوك
.
بناء الفكرة عن الشخص يحتاج لتراكم من معرفة النيات
تبعا للسلوكيات ، و هذا الحكم موضوعي وليس عاطفي . وعلى هذا نستطيع ان نعرف بطريقة
موضوعية اختيار الشخص للخير او للشر ، بعد ان يسقط وهم ان النية شيء لا يمكن ان يـُعرف
.
مثلا يا عزيزي : اراد عامل النظافة تنظيف مكتبك فقلب
الطاولة بما فيها كوب الماء او القهوة على ثيابك و تأثر لذلك .. لا تجد نفسك الا
تريد ان تسمح له ، بمعنى : انك عرفت نيته بسرعة .. بينما لو جاء شخص غاضب ويصرخ في
وجهك و قلب الطاولة ، لاعتبرت هذا اعتداء و شرا . اي عرفت نية الشر ، مع ان السلوك
واحد ..
اذن انت تقيّم الناس على النية و ليس على السلوك
المفرد المجرد ، لان اسقاط الطاولة فعل واحد . فالسؤال اذن لك : كيف انت عرفت نيات
الاثنين وبهذه السرعة ؟
الحكم يكون من مجموعة سلوكيات وليس من واحد . فأنت
حكمت في اسقاط الطاولة في المثال الاول ، ليس من السلوك نفسه ، ولكن بموجب سلوكات
اخرى مصاحبة ، وكلها غير شريرة نحوك . و المثال الثاني لذلك الشخص الغاضب المزمجر الذي
تشعر بحقده و كراهيته لك ، فمن كلامه وصراخه عرفت نيته ، و ليس من اسقاط الطاولة
بحد ذاته الذي اعتبرته عملا اجراميا مع هذا الشخص .
كل هذه العمليات يقوم بها شعورنا الذي يرصد بسرعة و دقة
اكبر من العقل . إن تقييم نيات الاخرين امر حتمي و ليس اختياري عندنا ، فلا تستطيع
ان تقيّم الشخص بسلوكه فقط مجردا من النية ، حتى لو كانت النية مُفترضة وغير
حقيقية . " من يفعل كذا فهو شخص طيب " ، "من يفعل كذا فهو شخص
سيء" ..
كل الناس يحكمون من خلال النيات ، وهذا واقعهم ، وان
كانوا ينكرونه و يقولون : ما لنا الا الظاهر والنوايا لله !! حتى القانون الوضعي
يفرّق بين الجريمة المقصودة والجريمة بالخطأ ، اي ينظر الى النية . فكيف بعد هذا
نقول ان النوايا لا يمكن معرفتها ؟
النية الغير مرتبطة بسلوك هي فقط ما لا يمكن معرفته
.. و لماذا يصفون احداً بأنه منافق ؟ او مدعي ؟ لأنهم ينظرون إلى نياته من خلال
سلوكياته الاخرى من عالم الشر ، و ليس الى سلوك واحد مجرد .
والذين يحاربون معرفة النية ولا يريدون لاحد ان
يتعامل بها ، غالبا يكون قصدهم ان يغيـّبوا العقل والشعور و دقة الملاحظة ليفعلوا
ما يشاءون ..
اذا تابعنا فكرة التقييم من خلال الظاهر فقط ، فعلينا
ان نصدق كل التمثيليات والافلام على انها حقائق ! فهي حقائق تظهر امامنا ! وكل ما
قاله الشعراء حقائق ! لانهم قالوه ، و هذا ظاهرهم !
إن التشكيك في عمل الخير عند شخص ، يحتاج إلى سلوكيات
مناقضة لهذا العمل ، حينها يكون للشك مدخل . إذا لم نر الا سلوكا واحدا ، كشخص نراه
لأول مرة ، و يساعد فقير ، ليس لنا هنا الا الظاهر ، و نحكم مبدئيا بانه شخص طيب
(مبدئيا) ، و اذا اردنا ان نتأكد ، علينا ان ننظر الى سلوكياته الاخرى ، فإن كانت
دوافعها تناقض دوافع هذا العمل ، بدأنا نتشكك .. لأن الاختيار واحد ، وهكذا يجب ان
يكون
في العلاقات : النية الاساس (الام) التي تتفرع منها
كل النيات ، هي مدار الحكم على الشخص .
ان الحكم الجامد على الشخص من خلال السلوك الظاهر
المفرد ، ظلم الكثيرين واعطى الكثيرين ما لا يستحقون .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق